في هذه السلسلة من المقالات سوف ألقي نظرة شاملة عامة علي نشأة الدين بين بني البشر بشكل عام، ودون تحديد لدين بعينه، ولا لطائفة دون أخري ولا لقوم دون آخر، وذلك من خلال الدراسات التي توصل إليها علماء الاجتماع والأنثروبولوجية الثقافية، للتعرف علي ماهية وحقيقة وأهمية الدين في حياة البشر، والتركيز علي حقيقة بدء نشأة الأديان. يعلم الجميع أن علماء الاجتماع والأنثروبولوجية الثقافية، قد أفنوا أعمارهم في بحث ودراسة نظم المجتمعات الإنسانية، ومن بين هذه الأبحاث والدراسات كانت أبحاث ودراسات نظام الدين ونشأته، وقد توصل هؤلاء العلماء إلي العديد من النظريات حول نشأة الدين في المجتمعات البدائية، وقد جاءت نتائج تلك الدراسات والأبحاث متباينة ومختلفة فيما بينها، ويرجع ذلك إلي مدي دقة كل باحث ومدي ما ظهر لديه من معلومات، وقد يكون خفي عليه أكثر مما ظهر له، فكل عالم يحصل علي المعلومات بناء علي قدر ما بذل من جهد وعمل. إلا أن بعض الكتاب، حين يدلون بدلوهم حول قضية ما من القضايا العلمية أو الاجتماعية أو الدينية، نجدهم قد تستهويهم بعض النظريات فيتبنونها، دون وعي منهم بمدي صواب أو خطأ هذه النظرية أو تلك، وربما وجدوا فيها ما يوافق هواهم ومنهجهم، فنراهم يضفون عليها بعض العصمة والقداسة، ويتجاهلون أو يجهلون ما ورد من نظريات أخري لعلماء آخرين قاموا بنقد ونقض هذه النظريات وأثبتوا خطأها وقصورها العلمي، ومثالا علي ذلك: فقد توصل بعض علماء الاجتماع الغربيين بعد دراستهم للنظام الديني في بعض القبائل البدائية الأسترالية وهي أقدم القبائل البشرية، وجدوا أن هذه القبائل يعبدون الجد الأكبر الذي ينتمي إليه أفراد القبيلة ويقدمون له الطقوس والشعائر، يطلقون عليه (الطوطم). وهذه النظرية تعني أن أقدم قبائل البشرية لم تكن تعتقد بوجود إله مقدس، ولم يكن لديهم أية فكرة حول الإله خالق الكون أو ما وراء الطبيعة كما يعرف الناس اليوم، فنري بعض الكتاب يتبني هذه النظرية ويجعل منها مسلمة من المسلمات، وحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنها توافق مذهبه في الإلحاد ونقض الأديان، إلا أن علماء غربيين آخرين قاموا بزيارة تلك القبائل واكتشفوا خطأ وقصور هذه النظرية وأثبتوا أن الإنسان البدائي الأسترالي يعتقد أن العالم -كما يفهمه- قد تكون في عصور قديمة عن طريق كائنات مقدسة يطلق عليها اصطلاح (طوطم)، وليس الطوطم هو الجد الأكبر للقبيلة، بل الطوطم كانوا يطلقونه علي كائنات مقدسة يعتقدون أنها هي التي خلقت هذا العالم، وسوف أفصل هذا الموضوع لاحقا في هذا المقال من خلال كتب علم الاجتماع والأنثروبولوجي. وأقدم للقارئ بعض النماذج من الإنتاج الفكري المبتور لبعض الكتاب حول نشأة الأديان ونشأة معتقداتها وشعائرها، علي النحو التالي: فكاتب يقول: الدين يرجع أصله إلي الأساطير والخرافات، وكان الباعث علي ذلك هو جهل الإنسان البدائي وقلة معرفته. وكاتب يقول: الدين هو في الأساس منبثق من السحر والشعوذة، وأن الطقوس الدينية هي وليدة الطقوس السحرية، بمعني أن السحر كانت له الأسبقية في الوجود علي الدين. وكاتب يقول: يعود الدين إلي عبادة الأجداد أو ما يسمي بالطوطم، ولجأ الإنسان إلي تقديس الأجداد للحفاظ علي وحدة القبيلة ووحدة عاداتها وتقاليدها الاجتماعية. وكاتب يقول: الدين هو مجرد نظام اجتماعي اخترعه الناس لحاجتهم الماسة إلي الضبط والأمان الاجتماعيين. وكاتب يقول: الإله اخترعه الإنسان ليحتمي به من قوي الطبيعة وأهوالها، أما وقد تطور الإنسان واستطاع أن يحمي نفسه من قوي الطبيعة، فلا حاجة إلي الله ولا إلي الأديان. وكاتب يقول: إن الشعائر التي يعظمها أتباع الأديان هي في الأصل شعائر جاهلية وثنية اعتمدتها الأديان لكسب ود القبائل. وكاتب يقول: أنا لا يعجبني هذا الإله ويستهويني ذلك الإله.. وكأننا في سوق أو ورشة للآلهة. وكاتب يقول: الدين اخترعته الطبقة الرأسمالية الحاكمة والمسيطرة لإلهاء الطبقة العاملة الفقيرة وتخديرها (أفيون الشعوب)، حتي لا تمتد أعينهم لما في أيدي الطبقة الحاكمة المستبدة بالحكم والثروات.. إلا أن التاريخ أثبت أن الأنبياء الذين جاءوا بالدين كانوا هم من ثاروا علي الطبقة الطاغية المستبدة، وليست الطبقة المستبدة هي من اخترعت الدين، لتخدير الطبقة المستضعفة. وكاتب يقول: الدين أساس منشأه هو الغريزة الجنسية كما ذهب إلي ذلك سيجموند فرويد، إلا أن فرويد قد تراجع فيما بعد عن نظريته ولم يتقبل تلاميذه منه هذا الرأي، ومنهم علي سبيل المثال عالم النفس الشهير (يونج). للحديث بقية