بواسطة 15 باحثا في تخصصات اجتماعية مختلفة حول قضايا الجسد كبنية ثقافية، يطرح هذا الكتاب «الأجساد الثقافية» الصادر عن المركز القومي للترجمة مفاهيم عديدة تدور حول الجسد، ربما بعضها معروف لكن الأطروحات حولها جديدة ومبتكرة، دعوة للتفكير والبحث بشكل مغاير في أكثر الأشياء التصاقا بنا، في أجسادنا التي تتقرر مكانتنا في المجتمع بالكيفية التي نحركها ونصونها بها. انفجرت موضة الكتابة عن الجسد، هذا ما يؤكده الكتاب في البدء، وأصبح موضوعا لكثير من الجدل بين أكثر من مجال، علماء الاجتماع أنفسهم انشغلوا بتطوير نظريات عديدة للجسد، مجاراة للتحولات العميقة في عالم ما بعد الحداثة وانتشار الثقافات الاستهلاكية، أو ما يسميه الكتاب «نوبات الفزع الأخلاقي» خصوصا بعد انتشار مرض الإيدز والتلوث البيئي، حتي صار «الجسد المراوغ والمتلاشي» هو أكثر الأوصاف ملاءمة لوقتنا الحاضر. فضلا عن التصاق الجسد بموضوعات أخري عن النوع والعرق والهُوية والعلم والتكنولوجيا، يبدو لهذا منطقيا أن يدخل البحث عن دلالات الجسد ووظائفه وأدواره وأنماطه الممكنة في صميم تخصص دارسي الإثنوجرافيا وعلم الإنسان. الجسد.. بؤرة المحرمات من بدهيات التعرف علي التجلي الاجتماعي للجسد حسبما جاء بالكتاب أنه جزء دائم وراسخ الحضور في التفاعلات الاجتماعية والثقافية، بل الأكثر من ذلك أنه هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتأكد منه حتي عندما نكون بمفردنا، هو أيضا بؤرة كثير من المحرمات والتحيزات والأحكام، في حين تأتي أطروحات الباحثين المترجمة داخل الكتاب لتتأمل مفاهيم عديدة أخري متصلة بالجسد، من بينها «الأجساد الافتراضية» أو الأجزاء غير الحية التي توصل بالجسد كالأطراف الاصطناعية مثلا. بعيدا عن الثنائيات الكلاسيكية للجسد: الرجل/ المرأة، الجسد/ العقل، يقدم الكتاب الذي حررته هيلين توماس وجميلة أحمد، وترجمه أسامة الغازولي رؤي ابتكارية وثاقبة حول ما يمكن أن يمنحنا إياه النظر إلي الجسد بصورة مختلفة تتجاوز الحدود الثقافية، وتعيننا علي فهم مغزاه الخطير وتلمس رمزية الجسد كحامل للثقافات. الجسد.. أداة قوة من ناحية أخري، وضمن إطار قضية «النوع والجنس» تربط محررتا الكتاب ما بين الجسد والحركات النسوية، التي ولدت نظريات جديدة عن الجسد تتحدي الدلالات الاجتماعية غير المنصفة التي التصقت بالجسد الأنثوي وعدته كيانا ضعيفا وغير منطقي، أو مقيدا غير مسموح له بالتفاعل الاجتماعي كجسد الرجل، أما الجزء المهم في هذه النقطة، فهو الإشارة إلي نشوء حركات نسوية سياسية في الستينيات وتحرير المرأة نبهت العالم إلي احتلال الجسد موقعا أساسيا في الصراع السياسي، وكان لها أثرها في يقظة الوعي بالجسد بوصفه «أداة قوة». أجساد الممسوسين يبين الكتاب كذلك كيف أن الجسد يحمل علامة الثقافة ويفرق بين الجوانب المتباينة للأجساد الثقافية، فبحسب المحررتين: «حكايا الجسد» التي تروي هنا تكشف عن هموم تتعلق بالهوية والاختلاف، وتلامس القضايا الشائكة للعرق والطبقة والذكورة والجنوسة والعمر والاكتهال، وأصوات أجساد الطبقة العاملة في الحي العشوائي، وعارضي الأزياء، والأطفال وراقصات التعري ونجمات البورنو ولاعبات الباليه.. حتي أجساد «الممسوسين». بالإضافة إلي دراسات تتخصص في إيماءات الجسد، مثل الغمز أو الاختلاجات الداخلية والخارجية للعواطف، إلي جانب دراسة الجسد ثقافيا بما يساعد علي إنهاء تهميش الآخر بالمعني العرقي أو الجنوسي. الحياة العارية إعادة صياغة الجسد والتحكم به هو غاية بحث يشمله الكتاب بعنوان «الحياة العارية» الذي يختبر الكيفية التي تتجسد بها ذواتنا، والكيفية التي نهذب بها الجسد ونسيطر عليه، بعدما صار الجسد ميدانا مفضلا للصراع. ويدعو هذا البحث إلي التفكير في الجسد بوصفه «جغرافيات دقيقة» منبها إلي أهمية أن تمتلك جسدا وأن تكون جسدا! نقوش الحب ووشم السجناء «نقوش الحب» عنوان دراسة أخري وضعها «ليس باك» تشد الانتباه إلي نقوش الجسد في شكل الوشم والقصص التي ترويها، فعل الوشم هنا يتجلي بوصفه تجربة بدنية، لكن الباحث يعالج تقليدا من تقاليد الوشم كان أكثر عرضة للتجاهل فقط لأنه ليس له علاقة بالموضة، إنه يتحدث عن الوشم الذي يستخدم ليشير إلي الطبقة، يقول باك: «يمكن النظر إلي ذلك النوع من الوشم كونه جاذبا للانتباه ومنفرا في آن». هناك حكايات الصياد العجوز الذي يروي وشمه حياة ارتحال، ومذنبي العهد الاستعماري الذين وصموا بوشوم معينة كنوع من العقاب وكعلامة مرئية علي ما ارتكبوا من أخطاء، كذلك السجناء الذين يضعون لأنفسهم بأنفسهم علامات هواياتهم واختلافهم في وجه سلطات السجن التي تحظر الوشم. في كل هذه الحالات يتخذ التعبير بالجسد أشكالا كثيرة بخلاف الألفاظ، وذلك مجازيا عبر العلامات التي صنعت بالوشم والنقوش التي تمثل في رأي باك «حبًا غير تخاطبي» يعبر به المشجع عن حبه لفريقه، والأب عن حبه لأطفاله، والحفيدة لماضيها الأسري. تدمير الذكورة للأجساد «الذكورات المعاصرة المتحولة» عنوان مثير لبحث آخر عن الجسد لجوان إنتويسل، تعالج فيه أجساد عارضي الأزياء، وتبين كيف أن الجسد الذكوري يصبح في هذه المساحة المهنية شيئا يتعين النظر إليه واشتهاؤه، فجسد العارض يبرز للعيان ليكون موضع رصد واشتهاء، وهو ما يخلق بدوره سلسلة من التوترات والتناقضات التي تتعلق بالكيفية التي يؤدي بها أو «يفعل» بها هؤلاء العارضون الذكورة لأجسادهم. تتدبر الباحثة أيضا كيف يدمر العارضون طابعهم الجنسي الذكوري في مكان العمل الذي يبدو أنه خاضع لسيطرة المثليين أو مزدوجي الجنس، حيث يصبحون مع الوقت مدفوعين عبر سلسلة من الحركات والاستراتيجيات لأن يتفاوضوا حول أعراض جسدية تدخل في نطاق أنثوي أو «شاذ». لذلك تؤكد إنتويسل في نهاية بحثها أن عروض الأزياء الذكورية يمكن النظر لها علي أنها تدمر وتعزز في آن واحد «اقتصاد الجنس المغاير».