الفارق بين فيلمي «سمير وشهير وبهير» و«عائلة ميكي»، وبين فيلم «الرجل الغامض بسلامته» الذي كتبه «بلال فضل» وأخرجه «محسن أحمد»، كالفارق بين الطعام الشهي الساخن الطازج، والطعام «البايت» الذي ظل في الثلاجة لساعات طويلة، فلما خرج بعد طول «بيات» حاول من طبخة أن يوهمك بأنه قادم توًا من نار الفرن «صناع» «الرجل الغامض» - الذي ليس غامضًا علي الاطلاق -فعلوا شيئا قريبًا من ذلك.. فقد لجأوا إلي حكاية مليئة بالثغرات والقفزات، بل استوردوا في نهاية الفيلم مشهد المحكمة الكلاسيكي المأخوذ من أقرب «رف».. في متحف سينما الأبيض والأسود، ثم حاولوا «تسخين» الطبخة البايتة بالكلام عن فساد الشركات متعددة الجنسيات، وانتقاد الحكومة والمعارضة معًا، بالاضافة إلي بعض المايوهات و«الكلوزات» علي الصدور والأجساد، مع «شوية إفيهات مكشوفة وحراقة» ورغم ذلك فشلوا في تسويق هذه الخلطة العجيبة لأن الطبخة فاترة تمامًا.. ولا يمكن ابتلاعها. بدا لي أيضًا أثناء اصطباري علي مشاهدة ملحمة «الرجل الغامض بسلامته» أن صناعه أنفسهم يعيشون في ثلاجة، ولا يعرفون ما يحدث حولهم، ورغم أن الفيلم يتحدث عن حادثة حقيقية هي محاولة إنشاء مصنع في دمياط والاعتراض عليه وإلغاء المشروع، إلا أن ما قالته الصحف وبرامج التوك شو عن الحكاية أجرأ بكثير مما حاول الفيلم المتعثر والمشوش دراميا أن يقوله، ومع ذلك لم تحاول الصحف والبرامج أن تزعم أنها تصنع فيلمًا وكوميديا كمان مثلما يزعم صناع «الرجل الغامض»، والحقيقة أن أفلام التعليق السياسي التي لا تستند إلي دراما قوية تتحول إلي كارثة حقيقية كما شاهدنا في أعمال مثل «ظاظا» و«طباخ الرئيس» و«ليلة البيبي دول»، وأفضل وسيلة يمكن لكاتب سيناريو أن يخدم موقفه من قضية محددة سياسية واقتصادية أو اجتماعية هي أن يخلص للبناء الدرامي الذي يقدمه ولا يلجأ إلي الاستسهال والمباشرة والخطب والشعارات، وإلا فليكتب مقالاً أو تحقيقًا يقول فيه ما يريد، أفلام التعليق السياسي تحتاج إلي مهاراة أعلي بكثير من الموقف المباشر لأنها تتعرض لمزاحمة قوية من الصحف ومقدمي برامج «التوك شو»، بل إن «أحمد آدم» يقدم برنامجًا من برامج ال«ستاند كوميدي» يقول فيه انتقاداته في دقائق قليلة بشكل مباشر ودون ادعاء بوجود دراما وفيلم ومخرج وسيناريو! الهيكل العام للحكاية تقليدي تمامًا: مواطن يفترض أنه شاب اسمه «عبدالراضي» «هاني رمزي»، مشاكله تلخص كل مشاكل جيله: من عدم القدرة علي الزواج والكبت الجنسي إلي متاعبه في العمل الذي يصل إلي حد طرده منه لمحاربته الفساد، إلي حياة أسرية مليئة بالمعاناة مع أخت مصابة بالشلل «مروة حسين» إثر خطأ طبي في مستشفي حكومي، بالاضافة إلي أب وأم لزوم استكمال أجواء المعاناة، فجأة يتحول هذا الشاب إلي رجل كذوب بمجرد أنه التقي في حادث «مفبرك» بسائق سيارة سفير سابق قبل أن يدّعي أنه سائقه الخاص في كل مشاويره المهمة، وبدلاً من أن يستغل الشاب مكافأة نهاية الخدمة في مشروع فيللا يقرِّر أن يشتري بها ملابس فخمة (تصوروا) ليقتحم العالم المخملي. استهلكت الدراما شخصية الكذاب الفقير الذي يحاول أن يستغل المظاهر للهروب من واقعه، وهناك فيلم بعنوان «علي بيه مظهر والأربعين حرامي» تعامل مع نفس الفكرة والأعجب أن «عبدالراضي» الذي غير اسمه إلي «رياض» سيتعرض أيضًا للكذب المضاد من فتاة أحبها، ولكنها هذه المرة اسمها «لميس» (نيللي كريم)، ومشكلتها أنها من أسرة ثرية ولكن عليها ديون(!!) وفي انتظار الحجز عليها، ولذلك تحاول الإيقاع به باعتباره عريسًا ثريا. عليك احتمال تحرشات «عبدالراضي» للفتيات في كل مكان ثم الإفراج عنه ببساطة، وعليك أن تبتلع رضوخ سائق السفير ل«عبدالراضي» لكي ينقله في كل مشاويره علي طريقة «أحمد راتب» مع «محمد صبحي» في «علي بيه مظهر والأربعين حرامي» ولكن ما لن تستطيع ابتلاعه لأنه يدخل في باب الاستهانة بعقل المتفرج، أن ينجح «عبدالراضي» في كسب إعجاب سيدات المجتمع بكلام عام عن ضرورة الاستفادة بالتجربة البنجلاديشية والماليزية في مكافحة الفقر وظاهرة أطفال الشوارع، ثم يكسب إعجاب وزير الاستثمار (أشرف زكي) بنفس الأفكار، هنا تشعر أن كاتب السيناريو لا يريد حتي أن يتعب نفسه لكي يجعل أحداث فيلمه مقنعة، ومنذ وصول «عبدالراضي» - الذي يبدو أقرب إلي الشخص الأبله - إلي مكتب الوزير يدخل السيناريو في حالة مفزعة من التخبط: فهناك «سميرة» (فريال يوسف) ممثلة إحدي الشركات متعددة الجنسية التي ألغي لها مشروع دمياط وتريد أن تعود إليه من جديد باسم آخر، وتحاول أن تجنّد «عبدالراضي» لإقناع الوزير بالمشروع الجديد، ويقبل الشاب مكافح الفساد، بل ويحصل علي 10 آلاف جنيه يجري بها عملية لأخته فتسير علي الفور وتقهر الشلل، وفي خط آخر تنكشف أكاذيب «عبدالراضي» و«لميس» المتبادلة، وفي خط آخر قصير يشعر الوزير بالغيرة من «عبدالراضي» لأن رئيس الوزراء شخصيا استدعاه باعتباره صاحب الأفكار «العظيمة» التي قدمها للوزير! تدخل «الفبركة» المنعطف الأخير بقتل الوزير، وتورط «سميرة» ووراءها الشركات في قتله لتمرير المشروع، ويتم القبض علي «عبدالراضي» الذي يبرر كذبه بأن الجميع يكذبون، وأن الغلابة يكذبون لكي يعيشوا، ويتم إنقاذه من حبل المشنقة بطريقة أسخف من أن تُحكي لكي يتزوج «عبدالراضي» و«لميس»، وينسي الفيلم في غمار أغنية النهاية أنه لم يحلّ مشكلة بطليه: فلا «عبدالراضي» وجد عملاً بعد فصله، ولا «لميس» سددت ديونها، وربما يجد لهما «بلال فضل» حلاً في جزء ثانٍ من الفيلم! ليست المشكلة في هذه الأحداث العجيبة التي تفشل في حمل أي قضية من أي نوع، ولكنها أيضًا في التشويش الذي رسمت به شخصية «عبدالراضي» لدرجة أنك لا تفهم هل هو غاضب لأن اللصوص القدامي أطاحوا به من عمله لأنه فشل في أن يصبح لصًا ويلعب مع الكبار؟! كيف يمكن أن يبرر «عبدالراضي» حصوله علي أموال للتعاون مع مندوبة الشركات متعددة الجنسية؟، لقد بدت الدراما عاجزة تمامًا لدرجة أن «عبدالراضي» يتحدث مباشرة عن فشل الغلابة حتي عندما يكذبون، بل ولجأ السيناريو إلي الصحفي «خيري رمضان» لكي يقول مباشرة مرتين ما عجزت الأحداث عن توصيله حيث يظهر في برنامجه «مصر النهاردة». حتي بناء المشهد الكوميدي - أو الذي يفترض أنه كذلك - يبدو بدائيا في اعتماده علي الإفيهات اللفظية المكشوفة التي يمكن أن تسمع ما هو أكثر جرأة منها إذا جلست علي مقهي أو في سيارة ميكروباس أو حتي وسط شلة شباب جامعي، والأعجب أن صناع الفيلم مازالوا يعتقدون أن جمهور الألفية الثالثة يمكن أن تجذبه «المايوهات البكيني» علي طريقة أفلام السبعينيات، بل إن بطلنا المكبوت يحتفظ بصور بنات الشواطئ في الدراسات التي يكتبها مما استلزم تقريعًا مُستحقًا لطريقته البدائية من رئيس الوزراء شخصيا! لا أستطيع أن أكرر ما قلته عن تراجع «هاني رمزي» الذي كان يتميز عن كل جيله بسيناريوهات متماسكة نوعًا ما كما في «جواز بقرار جمهوري» و«محامي خلع» ثم بدت مشاكل السيناريو واضحة تمامًا في «عايز حقي» و«ظاظا» و«أسد وأربع قطط» لا جدال في موهبته وقبوله لكن التحدي أصعب مما يتصور بكثير، أمّا «محسن أحمد» المصور الكبير فلا تعرف لماذا أصبح مخرجًا لكي يسحب من رصيده، لا أظن أن عاشقًا حقيقيا لفن السينما يمكن أن يحقق شيئًا من إخراج أعمال مثل «أبو العربي» و«الرجل الغامض بسلامته» اللهم إلا إذا كان الحصول علي لقب مخرج يشكل عقدة قديمة وهو أمر أشك فيه لأن «محسن أحمد» المصور القدير لا يقل قيمة أو أهمية عن أي مخرج كبير من الأسماء الشهيرة. علي مستوي التمثيل لا يوجد شيء لافت: «نيللي كريم» الرائعة في «واحد صفر» تبدو هنا عادية بل وباهتة تمامًا، وهناك محاولة اجتهاد من «فريال يوسف» تعرقلها اللهجة، ومحاولة تغيير من «مروة حسين» ينقصها الإقناع، وظهور لشخصيات غابت طويلاً مثل «عمر الحريري» و«وفاء سالم»، وقد بدا الأول مرهقًا أو تعبانًا، ولعبت «وفاء» دور الأم بطريقة مقبولة، وكان لدينا «حسن حسني» في ظهوره التقليدي لتلطيف الأجواء، وبصفة عامة كان الفيلم محتاجًا لاختصار ما لا يقل عن نصف الساعة لكي يكون أكثر احتمالاً. في مشهد المحكمة يصرخ «هاني رمزي» مطالبًا بمحاكمة كل الكذابين كبارًا وصغارًا، وأنا أضم صوتي لصوته بشرط أن يتم أيضًا محاكمة صُنَّاع الأفلام الرديئة التي تدعي أنها تقول أشياء كثيرة مثل ملحمة «الرجل الغامض بسلامته»!