لا يزال اليمن في واجهة الأخبار. لا يمرّ يوم من دون كلام أو خبر عن الوضع اليمني الذي يمكن وصفه بأنه وضع قابل للمعالجة متي توافرت الظروف الكفيلة بذلك... قبل فوات الأوان طبعا. ما نشهده اليوم علي الصعيد اليمني يتمثل في محاولة هذا البلد الذي يمتلك حضارة عريقة الخروج من أزمته علي الرغم من تضافر عوامل عدة تساهم في استمرار تلك الأزمة. تأتي علي رأس هذه العوامل الإمكانات المحدودة المتوافرة لدي السلطة اليمنية من جهة والوضع المضطرب في الشمال والجنوب من جهة أخري. يخوض اليمن حروبا حقيقية علي جبهات عدة. هناك التمرد الحوثي في الشمال الذي يؤمل بأن تكون الجهود القطرية وضعت حدا له في ضوء الاتفاق الأخير الذي تم التوصل إليه بين الحكومة والحوثيين. إلي الآن لا يزال الاتفاق ساريا، وبات في الإمكان الكلام عن تحسن نسبي للوضع في محافظة صعدة والمناطق المحيطة بها وعن نجاح قطري في منع نشوب حرب سابعة بين الجانبين، يبدو البلد في أشدّ الغني عنها. وهناك جبهة الجنوب حيث يسعي ما يسمي "الحراك السلمي" إلي عودة الانفصال، أو ما يسمي يمنيا عهد التشطير، وكأن التشطير الذي يعني وجود دولة في الشمال وأخري في الجنوب شكل يوما حلا لمشاكل اليمن! وهناك الفقر الذي تساعد في انتشاره ظاهرة النمو السكاني ذات الطابع العشوائي وهي ظاهرة تهدد باحباط أي محاولة لتحقيق نمو علي الصعيد الاقتصادي. وهناك البرامج التعليمية البالية والمتخلفة التي تساعد في انتشار ظاهرة التطرف الديني التي كان المجتمع اليمني يرفضها في الماضي. وهناك ما هو اخطر من ذلك كله، اقله بالنسبة إلي المجتمع الدولي، وهو الوجود القوي لتنظيم "القاعدة" في مناطق يمنية عدة خصوصا في مأرب وشبوة وابين. وكان ملفتا أنه لا يمر يوم إلا وتشهد ابين صدامات بين الجيش اليمني وعناصر تابعة لأجهزة أمنية من جهة وإرهابيي "القاعدة". كان مهما أن يعلن "الحراك" أن لا علاقة له ب"القاعدة". ولكن ما قد يكون أهم من ذلك بكثير ترجمة هذا الكلام إلي أفعال، خصوصا أنه يتبين يوميا أن "القاعدة"، بكل ما تمثله من اخطار علي اليمن وعلي المنطقة كلها، تعتبر المستفيد الأول من أي اضطرابات تقع في أي منطقة يمنية. بكلام أوضح، أن المواجهة الدائرة بين عناصر "الحراك" وقوات الأمن اليمنية تصب بشكل مباشر في مصلحة "القاعدة" وتشكل تهديدًا للاستقرار في اليمن وتهديدًا لكل مواطن يمني يسعي إلي العيش بسلام في وطنه ويؤمن في الوقت ذاته بأن للمجتمع اليمني قيمه التي تتناقض كليا مع ما تحاول "القاعدة" فرضه من تخلف في كل حي وفي كل بلدة أو مدينة قد تقع يوما تحت سيطرتها. من في حاجة إلي دليل علي ذلك، يستطيع العودة إلي ما حدث في أفغانستان في عهد "طالبان" حيث منعت المرأة من دخول المدرسة. وعلي من لم يقتنع بذلك ولا تزال لديه أوهام في شأن "طالبان" وممارساتها، التفكير مليا فيما يجري في الصومال حاليا. ليس كافيا التبرؤ من "القاعدة" حتي لا يعود لها تأثير في أي محافظة يمنية، خصوصا في الجنوب. وليس كافيا أن يقول قادة الحوثيين إن هناك تناقضا فكريا ومذهبيا بينهم وبين "القاعدة" ومن يقف وراءها. هناك علي الأرض أجواء تشجع "القاعدة" علي التوسع في اليمن. ولا بدّ في هذا المجال من الاعتراف بان هذا التنظيم الإرهابي استفاد في مرحلة معينة من تواطؤ بعض الأوساط القريبة من السلطة للأسف الشديد. هناك في المرحلة الراهنة وعي علي كل مستويات السلطة لخطورة "القاعدة" وضرورة اجتثاثها من جذورها. هذا ليس كافيا نظرا إلي أن خطر "القاعدة" يشمل كل مواطن يمني من أقصي الشمال إلي أقصي الجنوب. السؤال كيف يواجَه هذا الخطر بدل العمل علي تقويض السلطة المركزية أو السعي إلي المساس بالوحدة. نعم، هناك اخطاء ارتكبت. لكن هذه الأخطاء لا تبرر بأي شكل العمل علي خلق الفتن بين الشمال والجنوب أو بين الشماليين انفسهم من منطلق مناطقي أو مذهبي أو قبلي. لا يحل مشاكل اليمن سوي الحوار. شرط أن يكون هذا الحوار في العمق ومن دون عقد ومن دون فيتو علي أحد. لا أحد يستطيع أن يلغي أحدا في اليمن. ما حدث بين السلطة والحوثيين أخيرا خطوة مهمة. لكنها خطوة أولي علي درب طويل يفترض أن يؤدي إلي جعل كل سكان صعدة والجوف وحجة وعمران يشعرون بانهم يلقون اهتماما من الدولة. وما يحصل في الجنوب لا يصب في مصلحة أحد في غياب الوعي لأهمية المحافظة علي الوحدة تفاديا لمتاهات لا تخدم اليمن واليمنيين بمقدار ما تجعل البلد يقترب من الصوملة. الوضع في اليمن قابل للعلاج، خصوصا إذا اعترف كل طرف بأخطائه. نعم، هناك أخطاء ارتكبت بعد الوحدة وبعد حرب صيف العام 1994، لكن ذلك لا يبرر العودة إلي التشطير نظرا إلي أن ليس ما يضمن قيام دولة واحدة موحدة في الجنوب في حال المساس بالوحدة. يبقي أن اليمن مسئولية خليجية وعربية أيضا. "القاعدة" لا تنمو إلا في أجواء البؤس. ما شهدناه في الأشهر الأخيرة، إذا استثنينا الوساطة مع الحوثيين، هو شبه غياب عربي وخليجي عن اليمن. هذا لا يصب حتما في مصلحة اليمنيين ولا في مصلحة دول الخليج العربية الساعية إلي محاربة "القاعدة" وقطع الطريق علي تسلل قوي غير عربية، خصوصا إيرانية، إلي اليمن.