أحذر من اعتبار الثقافة رفعة اجتماعية أو وساما يزهو به المثقف علي باقي خلق الله، في حقيقة الأمر هي محنة أو سوء حظ اختاره بعض الناس بمحض إرادتهم لأنهم وجدوا في ذلك لذة خاصة، أو هبط عليهم لأسباب لا يعرفها أحد حتي الآن .والمرجعية السياسية الوحيدة المكتوبة لدينا عن المثقفين حتي الآن هي الميثاق الوطني لتحالف قوي الشعب العامل التي اعتبرت المثقفين عنصرا مستقلا عن باقي عناصر المجتمع الذي حددته بأنه (العمال والفلاحون والرأسمالية الوطنية والمثقفون والجنود) ومن ذلك نفهم أنه عندما تكون فلاحا أو عاملا، أو رأسمالية وطنية أو جنديا فمن المستحيل أن تكون مثقفا، وذلك باعتبار أن الثقافة عندما تنزل من السماء كالأمطار أو تأتي قادمة من تحت الأرض كالينابع فهي تصيب فقط هذه الفئة المحددة من قوي الشعب العامل. فإذا كان الفلاحون يعيشون في القري والأرياف بوجه عام، والعمال في المصانع، والرأسماليون الوطنيون يعيشون في دكاكين البقالة وما في حكمها، والجنود في معسكراتهم لذلك كان من الطبيعي أن يكون لهؤلاء المثقفين عنوان علي الأقل لمعرفة المكان الذي سيقبض عليهم فيه أو رفتهم منه، أو يخوضون فيه معاركهم الصغيرة والكبيرة فلا ينشغلون ببقية المهام التي احتكرتها الحكومات ولعل أهمها التفكير في الحاضر والمستقبل، كل من يكتب حرفا في مقال أو في كتاب كان عنوانه الصحافة، أما كل من يكتب ابداعا فنيا من قصيدة، أو رواية، أو قصة أو مسرحية فكان من الضروري إيجاد الأوعية المناسبة التي تحتويهم، وذلك بالطبع قبل ظهور ما يسمي بالحظيرة. هكذا أنشئ اتحاد الكتاب بوصفه نقابة لمن يعملون في مهنة الكتابة، وأذكر وأنا عضو مؤسس فيه أنني كنت سعيدا بهذه النقابة التي ستدافع عن حقوقي وكتبت مقالا في مجلة «روز اليوسف» في الوقت بعنوان "الكاتب المصري لم يعد جالسا القرفصاء" وتطلب الأمر مرور عشرات السنين لكي أعرف أنها ليست نقابة ولا يحزنون، بل هي مجرد مكتب من مكاتب وزارة الثقافة علي استعداد لأن يفصلني من عضويته لمجرد أن لي رأيا سياسيا مخالفا لآراء السادة في وزارة الثقافة، نعم.. نقابة المهن السينمائية واتحاد الكتاب ليستا أكثر من مكاتب حكومية تابعة لوزارة الثقافة. آتي الآن إلي ما يسمي "بثورة المائة مثقف" التي تطالب وزير الثقافة بالاستقالة لأنهم يرونه مسئولا عن التدهور الثقافي في مصر، ورد عليهم بتحويل أوراقهم إلي اتحاد الكتاب بوصفه المرجعية في معرفة المثقفين، ورد الاتحاد بالقول: لأ يابيه.. مش مثقفين.. هم بس فيهم خمسة أعضاء في الاتحاد.. بس مش مثقفين قوي. أنا أعتقد أن ما يحدث الآن من شد وجذب في ميدان الثقافة هو محاولة لإعادة النظر في كل قيم الماضي الثقافية. وفي كل الأحوال من المحتم أن ينتج عنها المزيد من الحرية الفكرية، لأن الناس بالفعل بدأت تتساءل عن معني الثقافة ووظيفة المثقف بل إن هناك نقاشا جادا يحاول الوصول إلي تعريف لكلمة الثقافة نفسها، إنها معركة حقيقية من معارك التغيير في مصر، وفي المعارك لا أحد يستطيع إخفاء ملامح ضعفه أو قوته، وسينجح في هذه المعركة من يستطيع إثبات أن السلطة في مصر ستكسب الكثير عندما تقوم بتغيير كل المفاهيم الثقافية السياسية التي أدت إلي عزلة الثقافة المصرية عن ثقافة العالم. المثقف الحقيقي يؤمن بأنه جزء من هذا العالم وعليه أن يكون علي وفاق معه، الثقافة هي درجة عليا من حب الحياة والدفاع عنها، وليست فرصة لاقتناص الأموال والنفوذ والشهرة.