قوة العلم هي في بساطة وحتي تفاهة الاسئلة التي تلقي.. العلم بالمعني العادي للكلمة متعتي أكثر من أي شيء آخر.. العلم الحديث يجعلنا نتحكم في الحياة ولكنه لا يحل لغزها أبداً. لا يمكن لأحد إلا لمن عاش مع كل هؤلاء العلماء المشهورين أن يتصور إلي أي مدي هم لا يفهمون بأي درجة من العمق لا العالم ولا أنفسهم العلم الحديث موضوعه هو جزء صغير جدا من أنماط المعرفة ولا يمكن أن يرقي إلي مستوي محاولة الفهم العام يرون التكافل مع العلوم الاخري يطلق عليها احيانا ويرون دقة العلوم الانسانية الادب والرسم والرقص والموسيقي كلها علوم لم نكتشف حتي الآن قوانينها الدقيقة ولم نكتبها حتي الآن باللغة الدقيقة التي تسمي الرياضيات هناك خطوات صغيرة في هذا الاتجاه لا يسع المكان لذكرها. أما الخطوات العملاقة للمرحلة التي هي قبل مرحلة الصياغة في صورة معادلات رياضية فهي تلك الخطوات التي اخذها عباقرة مثل بروست والغيطاني. اصطحبني الغيطاني مرات عديدة إلي عالمه وتعرفت عن طريقه علي كثير من العباقرة الذين تزخر بهم مصر مثل المرحوم نجيب محفوظ وبالطبع بصديق عمره ورفيق دربه يوسف القعيد بالاضافة الي ذلك شاركت في عدد كبير من صالونات الغيطاني التي كانت تبث من محطة دريم بالاضافة الي مصاحبته الي احياء القاهرة القديمة باجوائها التي تنفرد بها دون أي مكان آخر في العالم كله. حان بعد ذلك الوقت لأن يصحبني جمال الغيطاني الي عالمي في جبال الالب حيث كانت رياضتي المفضلة في تسلق الجبال في الصيف والانزلاق علي الجليد في الشتاء حانت الفرصة عندما دعت وزارة الثقافة الالمانية اديبنا الكبير لاعطاء عدد من المحاضرات في الاكاديمية الالمانية للفنون والآداب. انتهزت هذه الفرصة ودعوت جمال للاقامة بعض ايام في منزل لي في جبال المانيا اهرب اليه كلما شعرت بضغوط الحياة. المحتوي الفكري والفلسفي لهذه الايام في جبال الالب بألمانيا كتبها جمال الغيطاني في عدد من المقالات والتي نشرت منذ عدة سنوات في اخبار الادب التي تصدر عن مؤسسة الاخبار. أود ان اذكر هنا فقط إحدي نوادر جمال الغيطاني خلال هذه الايام الجميلة. كان الغيطاني مبهوراً بجمال الطبيعة ونقاء الهواء ونظافة الشوارع وهندسة المنازل الريفية الالمانية وعلي الرغم من ذلك يبدو انه كان يدفع ثمناً باهظاً لبعده عن القاهرة. أنا مثلا لم أدخن سيجارة في حياتي وهو علي النقيض لجمال الذي لا يتوقف عن التدخين مثله مثل اغلب الفنانين والادباء. قال جمال لي فجأة وبخفة دمه وأدبه المعهود يا دكتور محمد أنا شاكر علي هذه الايام الجميلة في الجبال ولكن الحقيقة صحتي بدأت تتأثر لنقاء الهواء الي درجة تخنقني كما ان متوسط عمر الانسان عندكم في هذه القرية يزيد علي سبعين سنة ولم أر وجهاً واحداً بجمال الوجوه في القاهرة القديمة ولذلك استودعك الله يا صديقي وكان وكأنه يردد بعض أبيات الشعر التي أكملتها أنا له إن «القلب قد أضناه عشق الجمال».. أما الباقي فلا يقال كما قال عمر الخيام. طبعا لا أحتاج أن اذكر ان مصر بكاملها في انتظار عودة جمال الغيطاني اليها معافي وبكامل صحته وعندما اكتب مرة ثانية عن هذه الايام مع جمال فلن تكون في البحث عن الزمن المفقود بل في ذكري الزمن الجميل مع جمال الغيطاني الصديق والاديب والانسان.