الفيلسوف الفرنسي "إيمانويل ليفيناس" ( 1906 - 1995 )، هو أكثر الفلاسفة اليهود دفاعا عن الأخلاق في القرن العشرين - وحتي اليوم وربما غدا - الذين دعوا الي تبني المسئولية تجاه (الآخر) - أيا كان هذا الآخر - وهو الذي أطلق هذه العبارة (الصرخة) في وجه قادة إسرائيل بعد مذابح صبرا وشاتيلا: "الإنسان أكثر قداسة من كل الأرض المقدسة". وعلي الرغم من جرائم القتل والإبادة الجماعية التي راح ضحيتها حوالي ستة ملايين انسان، فيما بين الحربين العالميتين، من بينهم عائلة ليفيناس نفسه، فإن ذلك لم يؤثر سلبا علي الأهمية التي منحها للآخر، إذ وظف مجمل انتاجه الفلسفي في البحث عن الآخر والاعتراف به، وهي القضية المحورية والمعني الأعمق - برأينا - للمفاوضات المباشرة (الصعبة) بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي تبدأ مساء اليوم في واشنطن. في مقال للفيلسوف الكندي "تشارلز تايلور "عنوانه (سياسات الاعتراف) يقول: "إن الاعتراف بالآخر ليست مجاملات نتبادلها مع بعضنا البعض، لكنه (حاجة إنسانية حيوية) تقوم علي أساس أن الحياة (ذات طابع حواري)، وأننا نعين أنفسنا عن طريق الاتصال بالآخرين. و(الاعتراف الخاطئ) يتضمن ما هو أكثر من عدم الاحترام، فهو يمكن أن يحدث جراحًا خطيرة، ويثقل ضحاياه بكراهية معوقة للذات...". وقد سبق وحدد المنظر والناقد الروسي "ميخائيل باختين" مبدأ (الآخرية ) بقوله: "إننا نخفق في النظر إلي أنفسنا ككليات، ولذا فإن الآخر ضروري، حتي ولو كان ذلك مؤقتًا، لاستكمال فهمنا لذواتنا إذ إن الذات تختبئ في الآخر، إنها ترغب أن تكون ذاتًا أخري للآخرين، أن تخترق عالمهم كآخر، وأن تطرح عنها ثقل الذات المتفردة". إن الحوار بين الثقافات أو داخل الثقافات هو المشكلة الوجودية للسياسة الواقعية المستقبلية، ولابد من إعادة التفكير في العلاقات السائدة داخل عالم متعدد الثقافات في عصر العولمة ، حتي ننزع سلاح الثقافات أو (الهويات القاتلة) حسب تعبير المفكر اللبناني "أمين معلوف"، يقول في كتابه الذي يحمل نفس الاسم: "إنّ ما يسمّي احترام الخصوصيات الاثنية أو الدينية أو المذهبية، أكثر من احترام الإنسان الفرد لإنسانيته وفرديته، موقف يضمر" عنصرية "مقيتة"، وهذا هو جوهر "السلام"، أو قل ثقافة السلام، وهي السبيل لمعالجة مشكلات التهميش واللامبالاة والكراهية والعنف، كما جاء في إعلان اليونسكو 1995 أن التسامح في حقيقته تربية مستمرة، فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والإدراك بأننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الأعراق والأجناس والأديان جنباً إلي جنب هو نوع من التسامي فوق المطامع والمصالح الضيقة، أي أن التسامح يقضي بأن نري مصالحنا في إطار مصالح الآخرين. تجري هذه المفاوضات في إطار ما يعرف ب"ما بعد الحداثة السياسية"، أو قل "فوقية الشرعية الدولية" ومظلتها، إذا إن الكثير مما يخلق أزمات وصراعات دولية تحت شعار أو ذريعة "السيادة" سيزول تلقائيا حين تعتمد الديمقراطية معيارا عالميا، بحيث لا تنضم للمنظومة الدولية الجديدة إلا "دول ديمقراطية" بدلا من "دول ذات سيادة" المستعملة الآن. أضف إلي ذلك، أن هناك تغيرًا عضويا في بنية رأس المال العالمي، خلخل الكثير من المسلمات التقليدية في السياسة الدولية، وهي أن رأس المال يولد الحروب. العكس هو الصحيح، ربما كانت بنية رأس المال العضوية الراهنة، أو بالأحري عملية الانتاج العالمية، ورأس المال أحد مكوناتها، من التداخل والتشابك والتعقيد إلي درجة قد تمنع قيام الحروب، التي عرفناها، مستقبلا وهي لاشك تعرقلها علي نطاق واسع اليوم. وحدها "الثقافة" ستظل هي العامل الحاسم في مستقبل العلاقات والصراعات الدولية في الألفية الثالثة، وهنا تبرز أهمية عبارة ليفيناس، التي يجب أن توضع علي طاولة المفاوضات المباشرة، وفي وسطها باللغات الثلاث (الإنجليزية والعربية والعبرية) ليراها الجميع: "الإنسان أكثر قداسة من كل الأرض المقدسة".