من المعروف لدي الجميع أن الديانة اليهودية ليست ديانة دعوية، بمعني أنها لا تعتمد علي الدعوة أو التبشير في تقديم أفكارها لغير اليهود لينضموا إليها أما المسيحية والإسلام فقد تبنتا الدعوة والتبشير للوصول إلي المختلفين عنهما أو الرافضين لهما لإقناعهم بالدخول فيهما، وكما هو معروف أن هذه العملية تحتاج إلي داعية مدرب ورسالة واضحة المعالم وطرق متنوعة لتقديم الرسالة للمستهدفين. ولقد مرت الدعوة الدينية بأشكال وألوان وطرق متنوعة علي مدي أكثر من ألف عام، ففي البدايات كان هناك حاملو الرسائل الذين ينتقلون من المكان الذي نزلت فيه الدعوة إلي أماكن أخري بعيدة أو قريبة، فرسل المسيح مثلا حملوا رسالته إلي العالم أجمع طبقا لوصيته إلي مصر وباقي دول الشرق الأوسط وإلي أوروبا والهند.. إلخ. وكان هؤلاء المرسلون يقومون بعقد تجمعات والدعوة من خلال عظات وتعاليم وإجراء معجزات بهذه الفلسفة استمرت حتي اليوم، ففي القديم وصل المرسلون الأرثوذكس إلي السودان والحبشة وليبيا.. إلخ. وفي القرن التاسع عشر جاء الكاثوليك والبروتستانت بعد الإصلاح الأوروبي إلي أفريقيا وآسيا ودول الشرق الأوسط.. إلخ. أما الدعوة الإسلامية فقد توسعت مع توسع الدولة الإسلامية لأن الإسلام حضارة ودين أو دين ودولة لذلك كانت الفتوحات الإسلامية يتبعها الدعوة الإسلامية، وهناك من الدول من لم يصبح فيها الإسلام دينا للدولة إلا بعد أربعة أو خمسة قرون مثل مصر، وهناك من قبل الإسلام ورفض اللغة العربية حفاظا علي حضارتهم مثل تركيا وإيران وباكستان.. إلخ، ثم كان لدور التجار العرب في العهدين الأموي والعباسي الأثر الواضح في نشر الإسلام أثناء تجوالهم بتجارتهم. ولقد بقيت الدعوة الإسلامية والمسيحية في هذا الإطار التقليدي حتي القرن العشرين، وهي داعية يعرف كيف يصل إلي الناس من خلال كاريزما معينة في تجمعات سواء في أماكن عبادة أو شوارع.. إلخ، ولقد حكي لي والدي أنه قبل الإذاعة والتليفزيون كان هناك اجتماع ديني في الأربعينيات من القرن الماضي بمدينة أسيوط، في مكان خلاء يضم حوالي ثلاثة آلاف شخص داخل خيمة ضخمة، وكان الواعظ موهوبا في الوصف فأخذ ينظر إلي اليمين ويتحدث عن الجنة والمتع التي سينالها المؤمن هناك، ثم إلي اليسار ويتحدث عن الجحيم والنار والعذاب وإذا بالشعب الذي علي اليسار ينتقل ويزاحم الجالسين علي اليمين من فرط وصف وتأثير الداعية. أما بعد ظهور التليفزيون ثم الدش والشبكة العنكبوتية فقد أصبح تأثر الناس بالجنة والجحيم والعذاب.. إلخ، يثير الكثير من الاستغراب، خاصة مع أفلام ومسلسلات الرعب.. إلخ، ومع وجود تيارات متعددة وتنويعات ومدارس للتفسير والتأويل وأفلام دينية وأغاني روحية حيادية.. إلخ. وهكذا انقسم الدعاة إلي قسمين متميزين في بلادنا، الأول ما زال يصر علي أن الكتب المقدسة تحتوي كل ما نحتاجه من علم وثقافة وتاريخ.. إلخ، وأن العالم المحيط بالمؤمنين هو عالم كافر مصيره النار وأنه علي المؤمن ألا يتعامل مع غير المؤمن وأن العودة إلي عصر الخلفاء في الإسلام وعصر الكنيسة الأولي في المسيحية هو النموذج المطلق الذي يجب تطبيقه في عصرنا، وأن هوية المؤمن هي دينه وإيمانه ليس أكثر. أما القسم الثاني فيركز علي أن الإنسان في حالة صيرورة، أي أن إنسان اليوم يختلف تماما عن إنسان الأمس وما قبل الأمس وما قبله.. إلخ، لذلك يحاولون إعادة صياغة الإنسان ليتحول من الجمود إلي الحركة، من خلال دعوة تتفاعل مع مقومات العصر بتقديم تفسير جديد يتعامل مع صيرورة الإنسان وتغيره المستمر مع العالم المتغير، وبهذا يستطيع الداعية أن يقدم البدائل دائمًا ويتفاعل مع الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن هذه المدرسة تحاول أن تعيد تفسير الحق ليقبله العقل المعاصر دون تطرف أو فرض لخطابه علي الآخر المختلف بل هو دائمًا يضع الآخر المختلف في وعيه. إنها الدعوة للسامعين في أن يجتهدوا ويبدعوا، فهو لا يقدم حقائق ثابتة وفتاوي سابقة التجهيز بل يحض مستمعيه علي التفكير والتبشير وتطبيق الآيات بتفسير وأسلوب معاصر، إنها الدعوة التي تعد سامعيها للتفاعل مع معطيات العصر والفارق بين دولة متحضرة وأخري في درجة التحضر هو في القدرة علي تبني المدرسة الثانية بقوة وحزم وعلي جميع الأصعدة التعليمية والإعلامية.