سقطت أكذوبة العرض الحصري، وسقط معها أيضاً مبدأ الإجماع علي شيء بعينه فيما نراه الآن علي الشاشات الصغيرة في بيوتنا في رمضان.. هناك أعمال مهمة نعم، وهناك أعمال مجتهدة، وهناك أعمال مكررة لكنها مثيرة وجذابة. وهناك أعمال كاذبة وأعمال صادقة لكن لا يوجد هذا الإجماع الكبير للأعمال القديمة التي أقبلنا عليها وكأنها فتح وحفظناها في خزائن الذاكرة بأشيائها الصغيرة قبل الكبيرة: «الشهد والدموع» أو «ليالي الحلمية» أو «بابا عبده» وقبلها «القاهرة والناس» و«هارب من الأيام» ثم أعمال مثل: «هي والمستحيل» أو «وسط الزحام» أو «قشتمر» أو «بوابة الحلواني» أو «السنين» أو «ضمير أبلة حكمت» وغيرها من الأعمال التي تمثل لنا جزءاً من التاريخ والجغرافيا معا. تاريخنا في سنوات الشباب والحلم وجغرافية المدن التي عشناها بكل تفاصيلها اليوم صار لكل واحد مسلسله الخاص، الذي ربما لا يشاركه في تفضيله أحد غيره من أفراد الأسرة وبدلا من اجتماع الكل حول الجهاز الواحد «اليتيم» في بدايات التليفزيون وبدايات المسلسلات وبدايات الاحتفال بشهر رمضان عن طريق التليفزيون أصبح لكل فرد في الأسرة جهازه ولكل مواطن مزاجه في المشاهدة. أعرف عائلات يري كل فرد فيها ما يحبه من مسلسلات رمضان في غرفته، يجتمعون معا ساعة الإفطار أو السحور وقد يطول الاجتماع لو كان لديهم ضيوف ثم ينسحب كل واحد إلي «مقره» ليري تليفزيونه أو يسمع ما يريده من جهاز الراديو الخاص به «هذا إذا كان يتعامل أساساً مع الراديو» أو يتعامل مع وسيط ثالث هو الإنترنت، وهو ما يفعله الكثير من الابناء الآن في حالة إعجابهم الشديد بعمل ما أو انزعاجهم أيضا من عمل. إنهم يبادرون إلي استرجاعه، والدخول علي مواقع النت المختلفة لإبداء الآراء فيه.. ولأن الصمت لمدة ثلاثين يوما حتي ينتهي المسلسل أمر صعب بالنسبة للبشر، فإن عمليات «النقد» و«الانتقاد» تبدأ من اليوم الأول والحلقة الأولي، وكأننا في استفتاء يومي لإعلان نتيجة ينتظرها الرأي العام حول هذا العمل أو ذاك. هل أصبحت المشاهدة للتليفزيون في مصر ضمن القضايا الحيوية التي لا يمكن السكوت عنها أم أن السيستم يفرض نفسه علي الجميع.. بمعني أن الفوضي والعشوائية في أساليب الحياة تأخذنا جميعا إلي تحطيم كل الأنظمة التي عشنا طوال حياتنا نتعامل من خلالها.. هل تفرض علينا الفوضي في بيوتنا من خارجها أم أننا نسعي إليها لأنها ترضي كل رغباتنا الصغيرة في الانصراف إلي ما نفضله شخصيا بدون الالتزام بقيود الأسرة والحياة العائلية والجماعية والإنسانية حين نتراجع دوما عن الذهاب لأقاربنا وأحبابنا في رمضان للاستمتاع بدفء المشاركة قبل دفء الطعام والشراب.. وهل هذا حدث بسبب العولمة أو قبلها.. لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، لكنني أري في البث الفضائي جزءاً من المسئولية عن هذا الشتات الثقافي للمصريين، أما ما فعله البث الأرضي فهو أكثر، فقد ترك مسألة الثقافة للمثقفين في منتدياتهم وأماكنهم وتولي هو بنشاط رعاية برامج كرة القدم والأخبار والمسلسلات قبل ظهور برامج «التوك شو» و«النيران المتقاطعة» ونجوم الكعب الداير الذين يختارون للمرور علي كل البرامج في كل القنوات الأرضية والفضائية. نعم لم يجلب لنا «البث الفضائي» بثورته قنوات للعلم أو التنوير وإنما للدجل والتكفير بجانب قنوات المسلسلات والأفلام والكليبات وقنوات الأخبار وهي الأقل عددا ولم يعلن التليفزيون الطبيعي للدولة في مصر عن موقفه من كل هذا، وإنما قرر منافسة التليفزيون الخاص الذي ولد بعده بمراحل، ومن ثم وصلنا إلي أن علينا أن نري ما يقترب من ثلاثين مسلسلا طويلا وقصيرا بدلاً من اثنين. إضافة إلي 15 برنامجا يتبادل ضيوفها إطلاق النيران الفكرية علي بعضهم البعض أو يتبادل مقدمو هذه البرامج النيران مع الضيوف أنفسهم كل وفق طريقته، وبعضهم يجد في «خنق» ضيفه لذة كبيرة والهدف من وراء كل هذا، كما قال المسئول الأول عن التليفزيون المصري هو سحب المشاهد المصري وحجزه أمام شاشة تليفزيون الدولة حتي لا يذهب بعيدا عنها بواسطة الريموت كنترول الصغير الذي من الممكن أن ينسف كل جهد، وكل نقود أنفقت علي هذه المسلسلات والبرامج. ثم إن المشاهد حين يركز أمام الشاشة الأم سيجعل المعلن يلهث وراءه ومن ثم يسترد التليفزيون نقوده، لكن المعلن اختفي حتي الثلث الأول من رمضان وأيضا لم يظهر بكثافة في الشبكة الخاصة المنافسة لتليفزيون الدولة وهي شاشة شبكة «الحياة»، ومعني هذا أن المعلن أخذ يفكر ويفكر في المكان الأولي بنقوده هو الآخر ولأن المعركة كانت صعبة بين الجهتين فقد وقف المعلن يتفرج حتي قرر الظهور علي الشاشة ابتداء من 9 رمضان ومع ذلك فلا فلوس الإعلانات سوف تحيي البرامج المقلوبة أو المعادة. كما أنها لن تفيد في جعل الخريطة أكثر راحة بدلاً من «جدول الضرب» الذي وضعناه لأنفسنا حتي نري أكبر عدد من الأعمال الجديدة، وبذلك وضعنا التليفزيون في دائرة مغلقة من الفرجة، إما هذا أو ذاك ونسي أن يخرجنا من هذا الحصار ببرامج وفترات أكثر قربا من المواطن العادي الذي لا يعترف به أحد كضيف أو شخصية مطلوب تواجدها وسط هذا الزحام. المواطن المصري الطبيعي تم تبديله بالمواطنين «السوبر» من ضيوف البرامج والمواطنين السوبر من شخصيات المسلسلات حتي لو كان مسلسلاً مثل «الحارة» فالدراما أكثر راحة وأمانا من وجع القلب لمن يفكر في تقديم برامج عن الناس وحياتهم في كل مكان من مصر.. خصوصاً في ظل وجود أزمات جديدة طارئة مثل انقطاع التيار الكهربائي في كل مكان، يوميا ومع تفاوت الزمن، الدراما هنا آمنة وقادرة علي تبديل الأمزجة بعد أوقات الغضب وفتح آفاق أوسع أمام الناس لرؤية جوانب مختلفة لأي قضية، بشرط أن تكون صادقة.. وأن يصل إليها الناس وسط هذا الكم الكبير من الأعمال. أما كيف يحدث هذا.. فهو شأن بعيد عن التليفزيون يحتاج منا لتدريب أنفسنا علي الاختيار من بين المعروض علينا.. وهل نحن قادرون حقاً علي اختيار الأفضل؟ سؤال بلا إجابة.. لأن كل واحد منا يختار ما بداخله أيا كانت القضية.