«قطرة» قصة للكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي الذي اشتهر بروايته «صحراء التتار». ومنذ البداية نعرف أن التجربة تقوم علي قطرة ماء تصعد سلم إحدي العمارات ويسمع ساكنوها صوت صعودها دون أن يستطيعوا رؤيتها أو تحديد متي تبدأ أو تتوقف. ودون أن يعرفوا كيف تفعل هذا وما المقصود منه ولماذا تختص عمارتهم بوجودها! مجرد قطرة ماء تصعد تسبب الخوف والقلق لهم. ولا تكتفي تلك القصة بالمفارقة التي تثير الابتسام لدي البعض فيعدونها مجرد طرفة ويسارعون باختزالها في دلالة بعينها، كما لا يتمادي الكاتب في إكساب تلك القطرة سمات غريبة مع إمكانية هذا وسهولته وهذا فخ يقع فيه كاتب يسعد بالمفارقة التي عثر عليها. بل يحرص بوتزاتي علي التأكيد طول القصة أنها مجرد قطرة ماء تصعد عكس المعروف للجميع من أن قطرات الماء تسقط.. ويستغرق في رصد وسرد تفاصيل كيفية العلاقة بين السكان وتلك القطرة. وكيف أن ردود أفعالهم إزاء قطرة الماء شبيهة بما يفعلونه لو كانوا في مواجهة خطر واضح مفهوم للجميع، إلي درجة قد يشعر معها القارئ أنها ليست شيئًا غريبًا مستحيلاً بل شيء ممكن حدوثه أو هو بالفعل يحدث بالنسبة للكثيرين دون أن يكشفوا عنه. «حتي النوم في حجرة داخلية بعيدة عن بئر السلم لا ينفع الأفضل أن تستمع إليها، بدلا من أن تقضي الليلة في شك من وجودها أو عدمه»، ولا يبالغ الكاتب في غرابة ردود أفعال وطريقة تفكير السكان في تلك القطرة فهو لا يريد أن يحول القصة إلي طرفة بل يحرص علي أن تكون أفعالهم في مستوي خوف أي إنسان من شيء مجهول حتي لو كان قطرة ماء. وهذا بالنسبة لي جمال تلك القصة. حدث مستحيل رغم بساطته يتسلل إلي حياتنا اليومية المعتادة ويسكن فيها، ويتحول بفعل الكتابة إلي إمكانية تضيء جوانب خفية فينا وتدفعنا إلي التفكير في دلالاتها دون أن نتعجل الانتهاء من فهمها سريعا.. وقد يكون من دوافع وجودها أو كتابتها لنتوقف عن اختصار الأشياء دائمًا في عبارات سريعة تريحنا من التعميق في التفكير. «لكم أصبحت الحياة غريبة إذن. مع عدم إمكان إقناع الآخرين في المنازل الأخري أولئك الذين لا يعرفون، ولكن ماذا عساها أن تكون تلك القطرة؟ هكذا يسألون بحسن نية مثير. أتري هو فأر، أم ضفدع صغير خرج من مخزن المخلفات؟ لا طبعا. ويلحون قائلين: «أهي مثلا إشارة؟ هل يراد بها مثلا أن ترمز للموت، أو لخطر ما، أو للسنين التي تمضي؟ أبدا يا سادة مطلقا، إنها ببساطة قطرة مياه. لكنها تصعد السلم إلي أعلي. أم تري يقصد بها تصوير الأحلام والأوهام؟ الأراضي المنشودة والبعيدة حيث يتوقعون؟ أهي شيء شاعري علي وجه العموم؟ لا، إطلاقًا. أم أكثر الأماكن بعدا، عن حدود العالم التي لن نصل إليها أبدا؟ كلا، أقول لكم، هذه ليست دعابة، لا تحوي شيئًا من الرمزية، إنما هي -للأسف كما تفيد التكهنات- قطرة ماء فقط» ومع كثرة ما ذكره الكاتب من تفسيرات مختلفة في نهاية القصة كأنه يعكس ما قد يفكر فيه القراء بمختلف مستوياتهم سواء المتعجل منهم أو المتعمق، فإنك تشعر أن هناك المزيد من التفسيرات. فلم تحد التفسيرات التي ذكرها الكاتب من أفق القصة ولم تختزلها، ولم يتردد الكاتب في مخالفة المبدأ القصصي الشائع بأنه يجب ترك الحدث يوحي للقارئ بما يريده من معان ويحب أن لا يفكر الكاتب بصوت عال في النص، فقد أرتنا تلك التفسيرات استحالة معني نهائي ومحدد ما دامت مجرد قطرة ماء قادرة علي أن تكشف تعدد واتساع رغبات وأحلام ومخاوف الإنسان.