في العديد من بلدان العالم التي تعتمد المركزية الإدارية، تعاني الأطراف من مشاكل لا حصر لها، تتمثل بشكل واضح في غياب، أو قلة التنمية والخدمات، وبالتالي ضآلة الأجور، وقلة الدخل، وتزايد البطالة، وصعوبة المعيشة، إن لم تكن مستحيلة. مصر ليست بعيدة عن هذه الحالة، فهي دولة عريقة في مركزيتها، وإذا كان هناك خلاف بين العلماء علي من اكتشف الزراعة في مصر أو العراق أو غيرهما من الحضارات القديمة، فإنه لا خلاف تقريباً علي أن مصر الفرعونية هي صاحبة اختراع الدولة المركزية، منذ خرج الفرعون نعرمر من جنوب مصر ليوحد الشمال والجنوب، ويبني أول دولة مركزية كبيرة في التاريخ. ومنذ 3200 سنة قبل الميلاد، حين وحد نعرمر المعروف باسم مينا القطرين وجعل مصر قطراً واحداً عاصمته في الصعيد، تنوعت العواصم وتعددت حتي بني القائد الفاطمي جوهر الصقلي مدينة القاهرة لتصبح عاصمة للدولة الفاطمية ومن ثم عاصمة تاريخية وأبدية لمصر، وتحلق الناس والخدمات والتنمية حول هذه العاصمة. ونتيجة لهذه المركزية الشديدة والخانقة عاني المصريون في سيناء والصعيد ومرسي مطروح، أي أطراف الدولة المصرية، من قلة الخدمات، مما جعل كل هذه الأطراف طاردة للسكان، الذين ازدحمت بهم القاهرة والإسكندرية وبعض حواضر الوجه البحري بحثا عن لقمة العيش وعن حياة أفضل، حتي بدأت الحكومة تلتفت مؤخرا إلي كل الأماكن المحرومة. انطلق قطار التنمية إلي الصعيد بسرعة غير معهودة خلال السنوات الخمس الماضية، وتعطل هذا القطار في سيناء لبعض الوقت، وتوقف ولم يصل النوبة منذ تهجير أهلها أثناء بناء السد العالي، لكن كل هذه القطارات المعطلة عادت إلي الانطلاق مرة. قبل يومين حط وزيرا التنمية المحلية والتضامن في وسط سيناء، وعقدا لقاء حضره محافظ شمال سيناء مع مشايخ القبائل، في لقاء نادر، إذ من الصعب أن تجد وزيرا في هذه المنطقة التي ظلت لسنوات بجبالها ودروبها الوعرة مأوي للإرهابيين والخارجين علي القانون. وأمس حط وزير الإسكان في النوبة ليتابع بناء ثماني قري وتجمعات نوبية جديدة، وطوال العامين الماضيين تدفق المسئولون علي القري الأكثر احتياجا في أهم مشروع تطلقه مصر لمكافحة الفقر. خطوات علي طريق طويل، لكنها مهمة، والأهم منها أن نواصل هذا التحرك، لأننا في كل خطوة، نضرب معولا في حائط المركزية البغيضة، ونضع لبنة في بناء اللامركزية الجديدة، لكن هذه النقلة تحتاج تشريعات قانونية تحرر الإدارات المحلية، وتطلق سواعد السكان، وتبني الإبداعات المحلية والقدرات الذاتية، حتي يكون إنحياز الوطن إلي أطرافه دائماً وعملياً وبناءً ومستمراً لبناء مصر الجديدة.. مصر ليس فيها مركز يطغي علي أطرافه.