جيل كاتب هذه السطور عاش عصرين وشرب من بئرين تقع إحداهما في مواجهة الأخري، وسبح في بحرين مع تيارين متلاطمين متعاكسين، أقصد جيل الاشتراكية التي تعلم فيها أن الاستعمار هو أعلي مراحل الرأسمالية، ثم مرحلة الحرية السياسية والاقتصادية التي تعلم فيها أن ينسي ما تعلمه من قبل. بالإضافة بالطبع لثقافته العربية المحيطة به منذ مولده، وثقافته الأجنبية الوافدة المتمثلة في الترجمات والأعمال الفنية الغربية. غير أنه وفي كل الأحوال كان وفيا في طلب الحرية أو علي الأقل كان منشغلا بالتفكير فيها طول الوقت. وفي كل الأوقات كان الطريق إلي الحرية واضحا أشد الوضوح، أن تكون ضد الاستعمار، أو ضد رأس المال المستغل أو ضد الرجعية، أو ضد إسرائيل أو.. اختر أي شيء آخر وضع كلمة ضد قبله. هكذا حدث طول الوقت أن كان الأكثر طلبا للحرية وربما الأكثر إحساسا بها هو من يتفوق في الضدية، غير أننا ونحن في خضم كل هذه الضديات لم يتسع لدينا الوقت لكي نسأل أنفسنا.. ومع من ومع ماذا نقف نحن؟ ولأننا لم نحاول الإجابة عن هذا السؤال، فقد تحولت الحرية ذاتها بالنسبة لنا إلي مفهوم غامض، وأخيرا استقر في وعينا أنه حرية التعبير، ليس في كل مجالات الحياة، بل في المجال الوحيد الذي نعرفه وهو الإعلام. ولأن عقولنا تعودت أن تعيش الأمس بمعطياته وليس اليوم، فقد مارسنا الحرية بنفس أسلوب مرحلة الضديات الذي أتقنّاه من قبل فأصبح عادة في التفكير. سأشتمك بضراوة تماما كما كنت أشتم الاستعمار والإمبريالية، ليس لأنني مختلف معك أو ضدك، ولكن لأنني أمارس حرية التعبير، وفجأة تكتشف أن حريتك في التعبير سببت أذي بالغا لآخرين، وأنهم احتجوا بشدة بل هم أيضا في طريقهم لما هو أبعد من الاحتجاج، عندها يبدأ الحديث عن الحرية المفقودة.. حرية التعبير. أعترف لك بأنني حتي الآن مازلت في مرحلة البحث عن مفهوم الحرية، كما أعترف أنني لست أفعل ذلك من أجلك، بل من أجلي أنا، من أجل ذلك الإحساس الجميل بأنني شخص حر، وهذا هو ما يدفعني لأن أعرض عليك ما وصلت إليه ليس بدافع الكرم ولكن لأن هذا هو واجبي تجاهك الذي أتقاضي مقابله أجري من هذه الجريدة. الحرية هي التجسيد النهائي لحب الحياة، وهو ذلك الحب العظيم الذي ولدنا به والذي يدفعنا في كل لحظة إلي جعل الحياة من حولنا أكثر جمالا وإتقانا وإنجازا ورقة وتهذيبا، وهي جميعا الشروط الواجب توافرها من أجل تنمية المكان وهو الأرض التي نحيا فوقها، وتنمية البشر، الإحساس بالحرية هو ما يقوي عاطفة اعتبار الذات عند البشر وهو ما يمنعهم من أن يكونوا ضد بعضهم البعض بغير قضية. وبغيرها يصعب وجود إنجاز ما في حياة البشر، الإنجاز في حد ذاته هو الدليل الوحيد علي وجود الحرية في مكان ما وهذا هو ما يجعل البشر أكثر حرية في الغرب، ليست أفكار المفكرين عن الحرية في الغرب هي ما صنعت الحرية بل إنجاز أصحاب العقول المحبة للحياة، تلك الإنجازات والاختراعات الحديثة التي جعلت حياة الإنسان أكثر سهولة ويسرا. ليست الحرية هي أن أعترف بحريتك في اعتناق ما تشاء من أفكار وعقائد، بل أن أحترم حقك في ذلك وأن أشاركك في الدفاع عنه عندما يتهدده خطر ما. وعندما نناقش أي قضية دينية فعلينا التنبه إلي أن الدين، أي دين في أعلي عليين، نحن نناقش فقط ما يقوله بشر زملاء لنا.