من المفيد في هذه المرحلة مراقبة تصرفات رئيس الوزراء البريطاني الجديد ديفيد كاميرون، السياسي الشاب الذي يحاول التأقلم مع التغييرات التي شهدها العالم. يدرك زعيم حزب المحافظين في بريطانيا أن عليه، في حال كان يريد إيجاد موقع لبريطانيا في هذا العالم أن يجد طريقاً خاصة به. يدرك أنه ليس مارجريت تاتشر التي كانت تملي أجندتها علي الأمريكيين وليس توني بلير الذي تحول إلي مروج للسياسة الأمريكية، بل تابع لها لا أكثر. ثمة تجربة سياسة مختلفة تشهدها بريطانيا هذه الأيام للمرة الأولي منذ انسحاب مارجريت تاتشر من الحياة السياسية مطلع التسعينيات من القرن الماضي، هناك رئيس للوزراء يسمي الأشياء بأسمائها. لم يتردد ديفيد كاميرون في وصف الوضع في غزة بأنه «سجن كبير» محملاً إسرائيل وحصارها الظالم للقطاع مسئولية ذلك. لم يكتف رئيس الوزراء البريطاني، الذي كان إلي جانبه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بالتشديد علي أهمية رفع الحصار عن القطاع، بل اعتبر الهجوم الإسرائيلي علي «أسطول الحرية» أمراً «غير مقبول» ويرتدي كلامه في شأن غزة و«أسطول الحرية» أهمية خاصة نظراً إلي أنه قاله من تركيا التي زارها أخيراً قبل انتقاله إلي الهند. يتصرف كاميرون بطريقة مختلفة عن الذين سبقوه في موقع رئيس الوزراء البريطاني في العقود الثلاثة الأخيرة، باستثناء تاتشر طبعاً. لم يأبه بردود فعل مؤيدي إسرائيل داخل المملكة المتحدة وخارجها. ربما أراد أن يقول إن بريطانيا في عهد حكومته ليست تابعة لأحد وإن عليها أن تبحث عن مصالحها من جهة وأن تستعيد المبادرة من جهة أخري. ولذلك توجه، بعد تركيا، إلي الهند علي رأس وفد كبير من المسئولين ورجال الأعمال بحثاً عن «فرص عمل» للبريطانيين. في الهند التي تمثل قصة نجاح سياسي واقتصادي، لم يعد في استطاعة أحد تجاهلها، تحدث كاميرون عن مشكلة كبيرة اسمها باكستان باتت «تصدر الارهاب» في كل الاتجاهات، بما في ذلك بريطانيا، كان واضحاً أن تصريحاته لا تعجب المسئولين الباكستانيين. لم يتزحزح عن مواقفه المعلنة قال بكل بساطة إن المواطن البريطاني لا يدفع الضرائب من أجل أن أدلي بتصريحات تنال اعجاب الآخرين» أراد كاميرون الرهان علي الهند التي تمثل المستقبل.. في حين باتت باكستان جزءاً من الماضي بعد تحولها إلي دولة تسير في اتجاه الفشل ولا شيء غير الفشل. يعرف كاميرون قبل غيره أن بريطانيا تمر بأزمة اقتصادية عميقة وأن من بين أسباب تلك الأزمة السياسات التي اتبعها سلفاه توني بلير وجوردون براون. أدخل بلير، بريطانيا في حربين، في أفغانستان والعراق، استنزفتا اقتصادها. بعد ذلك، تولي براون عبر النظام الضرائبي الجديد الذي فرضه تهجير الثروات الكبيرة من بريطانيا، إضافة إلي ضرب الفكرة التي قامت عليها السوق المالية في لندن. كانت العاصمة البريطانية تعج بالشركات المالية الكبيرة ورجال الأعمال الناجحين الذين استفادوا من القوانين الليبرالية التي أقرت في عهد تاتشر والتي عمل بلير علي تعزيزها. بعد الإجراءات والقوانين الجديدة التي جاء بها براون ووزير الخزانة في حكومته اليستير دارلينغ، راح هؤلاء يبحثون عن مدن أخري ينتقلون إليها مع شركاتهم. يوظف كاميرون حالياً السياسة في خدمة الاقتصاد البريطاني.. همه الأول خلق فرص عمل جديدة كي يضمن للمحافظين البقاء في السلطة، حتي لو كان ذلك بفضل دعم حزب الأحرار الديمقراطيين الذي يشارك في الحكومة الحالية. كلام رئيس الوزراء البريطاني عن غزة يشير إلي رغبة في اتباع سياسة خارجية مستقلة تساعد في فتح الأسواق العربية وحتي التركية أمام الشركات البريطانية. أما الكلام من الهند عن الخطر الذي تشكله باكستان علي العالم، فهو لا يستهدف الاستفادة من كل ما تمثله الهند اقتصاديا فحسب، بل إنه أيضاً إشارة إلي رغبة بريطانية في الخروج من المستنقع الأفغاني تبدو رسالة كاميرون واضحة كل الوضوح فحواها أن الحرب في أفغانستان التي دخلها توني بلير ارضاء للأمريكيين لا يمكن أن تكون رابحة نظراً إلي أن باكستان تشكل الحديقة الخلفية لأفغانستان وهي المصنع الحقيقي للإرهاب والإرهابيين. ولت الأيام التي كانت فيها مارجريت تاتشر تفرض أجندتها علي الإدارة الأمريكية وتدفع جورج بوش الأب إلي اتخاذ موقف حازم وقاطع من غزو صدام حسين للكويت قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال. ولكن ولت أيضاً الأيام التي كان فيها توني بلير ينفذ التعليمات الأمريكية من دون أي سؤال من أي نوع كان. فيشارك في حرب العراق، بل ويروج لها بعدما شارك في حرب أفغانستان المستمرة إلي يومنا هذا والتي تكلف الخزينة البريطانية مليارات الجنيهات الاسترلينية سنوياً. هناك عالم جديد يجد ديفيد كاميرون أن عليه التعاطي معه. إنه عالم مختلف لا تعرف بريطانيا أين موقعها فيه، حتي بالنسبة إلي طبيعة العلاقة مع الولاياتالمتحدة. من هنا، يبدو أن علي رئيس الوزراء البريطاني البحث عن سياسة خاصة به تؤدي إلي رفع أسهمه في الداخل أولاً. وهذا ما يفسر إلي حد ما كلامه عن غزة وعن باكستان. المسألة مسألة حياة أو موت، بالمعني السياسي، بالنسبة إلي رجل لا يزال يبحث عن طريقه. كاتب لبناني