لم تكن لدي موهبة في العزف الموسيقي. لذلك كانت معلمة الموسيقي في المدرسة الابتدائية تسمح لي بعزف آلة واحدة لا تتغير، المثلث. وكنت أشك في أن تكون هذه آلة موسيقية أصلاً، كانت تشبه اللعبة ولا تحظي بأي اهتمام من البنات الأخريات. الآلة مكونة من جزءين: الأول هو المثلث المصنوع من المعدن، تثبت في قمته دائرة تسمح بإدخال إصبع العازف وتعليق المثلث عليها في اليد اليسري بينما تمسك اليد اليمني بعصا اسطوانية رفيعة من نفس المعدن يدق بها العازف علي قاعدة المثلث من الداخل أو علي أحد أضلاعه من الخارج. تستخدم الآلة عادة لضبط الإيقاع أو للإيحاء بمرور الوقت. وعندما انتبهت بعد سنوات كثيرة إلي أن عبد الحليم حافظ استخدمها في واحدة من أغانيه الشهيرة شعرت بفخر شديد ورحت أتعقب صوت المثلث في كل الأغنيات باعتباري متخصصة في هذه الآلة وعازفة المثلث الأولي والوحيدة في فرقة مدرسة نوتردام الابتدائية. كنت أنتظر بفارغ الصبر لحظة الحسم، حين توميء إلي المعلمة فأرفع المثلث قليلا ليصل إلي مستوي وجهي وأدق ثلاث أو أربع دقات مع الأوركسترا أو بدونها ثم يصمت المثلث بين يدي حتي نهاية الحفل. كان هذا هو دوري في حصة "الطفاطيفي طا طا طا"، وفي حفلات المدرسة الموسيقية. مرة ارتقيت لمرتبة أعلي من مراتب العزف وسمحت لي المدرسة باستخدام الرق. نفس الدور المنوط بي منذ بدأت تعلم الموسيقي في المدرسة، دور مخز من وجهة نظري، هام جدا من وجهة نظر المعلمة التي كانت تنظر باتجاهي وتشير بعصاها فأدق دقات متتالية علي الرق وأهزه هزات عنيفة فيعلو صوت الشخاليل وينبهر الناس ويبتسمون. أما لو جاءت لحظة العزف علي الرق في نهاية المقطوعة أجدهم يصفقون قبل انتهاء العزف. كنا أحيانا نستخدم الرق في الرقصات الفولكلورية التي كنا نؤديها جماعة أمام الجمهور. كانت كل واحدة منا تعلق الرق في حزام مربوط حول الخصر ثم ترفعه في لحظة محددة أثناء الرقص وتدق عليه وتهزه فيأتي بنفس رد الفعل لدي الناس ويصفقون لبراعتنا في الرقص وضبط الإيقاع. حصة الموسيقي كانت مصدر استمتاع حقيقي للبنات اللاتي يجدن العزف علي آلة البيانو والكمان والجيتار. هؤلاء كن أكثر ثراء من الأخريات، وكن يتابعن دروسا خصوصية في العزف خارج المدرسة. كانت المدرسة تقدمهن للجمهور مرة أو مرتين في السنة، في حفل منتصف العام أو في حفل نهاية السنة الدراسية وكانت المعلمة تفخر بهؤلاء التلميذات الموسيقيات كأنها هي من علمتهن حسن الأداء. الحال في كندا كما هي عندنا في مصر، الأولاد في المدارس يتعلمون مباديء العزف علي آلة واحدة فقط، الفلوت. وحصة الموسيقي من أكثر الحصص إثارة للملل، لذلك يلجأ الآباء القادرون علي تعليم أولادهم الموسيقي في مدارس خاصة أيام العطلة، ليس بهدف التخصص ولكن بهدف التربية وترقية الذوق العام والمعرفة بأصول الفن التي هي أيضا معرفة بأصول التفكير المنطقي كما يتعلمها دارس الموسيقي. كان القدماء يحرصون علي تعلم الموسيقي باعتبارها علما من العلوم الأساسية، لا تختلف عن الرياضيات أو الفلسفة أو علوم اللغة والبيان. أما اليوم فقد باتت مجرد تذكار لما كانت عليه مناهج التعليم القديمة أو مجرد واجهة لاكتمال عناصر التربية في المدارس الحديثة. أصبح المنظور الاجتماعي للموسيقي أكثر تخلفا عما كان عليه في الماضي والفكر السائد اليوم يعتبر الموسيقي وسيلة من وسائل التسلية. أصبحت كما يقول التعبير الفرنسي مثل "شعرة في الحساء"، زائدة عن الحاجة لأنها تفتح الباب لشيطان المشاعر، أو علي أهون تقدير تضيع الوقت اللازم لتحصيل علوم أكثر أهمية من وجهة النظر الاجتماعية. في المدارس الابتدائية تعتبر الموسيقي من الكماليات، مادة غير أساسية بالمرة، تدرس مثلها مثل حصة الألعاب وحصة الأشغال وتختفي تماما من برامج التعليم في المرحلة الثانوية رغم أن هذه السن بالذات مناسبة لتعلم المبادئ النظرية للفنون ليس بالضرورة بهدف الممارسة ولكن بهدف الفهم والتقدير الجمالي. عندما كنت طفلة، لم يكن هناك بيت واحد يخلو من ولع بنوع أو آخر من الموسيقي والغناء. بعض زميلاتي كن يستمعن للمغنين الفرنسيين والإنجليز ويرفضن الاستماع للموسيقي العربية بأنواعها، يتعالين عليها باعتبارها موسيقي للعامة وليس للصفوة التي كن يتصورن أنهن ينتمين إليها. لم يتغير الحال كثيرا اليوم، حيث اكتشفت مؤخرا أن أبناء وبنات أصدقائي ممن يدرسون في المدارس الخاصة الفرنسية أو الإنجليزية في مصر لديهم نفس النوع من التعالي علي الثقافة المحلية بمعناها الواسع وعلي الموسيقي والأغنيات العربية بوجه خاص. كان أدورنو يقول إن قلة قليلة من الناس هم من يستمعون للموسيقي، والأغلبية العظمي يسمعونها فقط. وكان ادوارد سعيد، متأثرا بأدورنو، يرفض الغناء الشعبي أو "البوب ميوزيك" ولا يهتم إلا بالكلاسيكيات العظمي لأنها تبلغ درجة من التعقيد تصل إلي حد العلم، تشكل علما في ذاتها. ومع تطور أجهزة الاستماع وبث الموسيقي وتراجع طقس الذهاب لحفلات الكونسير والاستماع للموسيقي والأغنيات الحية، أصبحت الأنغام والألحان في كل مكان، نحملها معنا أينما ذهبنا، ونعتبرها خلفية مناسبة لكل أنشطة الحياة اليومية. والغريب أن انتشارها الكوني هذا لم يصاحبه اهتمام حقيقي بالموسيقي كفن، فالأبناء لا يتعلمون أصولها ولا يهتمون بما يمكن أن نسميه علم الموسيقي كما أنهم لا يتعلمون أصول الاستماع إلي الموسيقي باعتبارها مصدرا من مصادر المعرفة. وصعوبة تعلمها بهدف العزف علي آلة أو بهدف التأليف الموسيقي تحول بلا شك دون إدراجها ضمن مناهج التربية والتعليم، وكأن المجتمعات الحديثة اتفقت علي كون الموسيقي فنا غيبيا لا يصح أن يعرف أصوله سوي الأقلية. أما الأغلبية فمن حقها "الدندنة" علي المثلث أو علي الفلوت وبئس المصير!