أثيرت في الأيام القليلة الماضية أزمة قام بافتعالها بعض الفنانين والإعلاميين بعد حصول ورثة زوج الفنانة اللبنانية (فيروز) علي حكم من القضاء اللبناني بمنع السيدة (فيروز) من الغناء إلا بعد حصولهم علي مستحقاتهم المالية أو ما يسمي (حق الأداء العلني) والقانون اللبناني يحفظ للرحبانية حقهم في الحصول علي الحقوق المادية عن الأغاني التي تؤديها السيدة (فيروز) بشكل علني في حال كانت هذه الأغاني من صناعة والدهم (منصور الرحباني)، وأيا يكن الأمر فالقضية في الأساس هي قضية حقوق مشروعة وقضية قانون وأحكام قضائية يجب أن تحترم وأن تسري علي الشريف والضعيف، والغني والفقير، والرئيس والمرءوس، والمشهور والمنبوذ علي حد سواء، وأظن أن هذا في الأساس محض قيم ومبادئ ومثل عليا وبديهية من البديهيات التي لا يختلف عليها اثنان عقلاء أو مجانين. والسيدة فيروز حين تقوم بالأداء العلني لأي من الأغاني أو المسرحيات التي تعتبر ملكا للرحبانية إما أنها ستتقاضي أجرا عن أدائها هذا وعندها سيكون من حق ورثة الرحبانية أن يكون لهم حق قانوني في هذا الأجر، وإما أنها ستتبرع بأجرها وعندها ستكون قد أعطت عطاء من لا يملك، بل يعد خروجا علي القانون والأعراف والأخلاق وتعديا علي حقوق وممتلكات الآخرين دون إذن منهم. لكن اللافت في هذه الأزمة هو خروج عدد من التظاهرات والاعتراضات والمساندات التي قام بها للأسف الشديد بعض من يصنفون علي أنهم نخبة المجتمع من فنانين وموسيقيين وإعلاميين وكتاب وصحفيين لمساندة السيدة (فيروز) في خروجها علي القانون وتجاهلها لحقوق وممتلكات الآخرين تحت شعار (صوت فيروز) أو (فيروز رمز غنائي وفني عربي كبير) وغيرها من الشعارات التي اعتبرها هؤلاء مبررا ومسوغا مشروعا للسيدة فيروز في خروجها علي القانون وعدم اكتراثها بحقوق وعقود وممتلكات ومصالح الآخرين، وكان من بين هؤلاء وأكثرهم وضوحا وتبريرا وتسويغا هي الإعلامية البارزة السيدة (مني الشاذلي) في برنامجها الشهير (العاشرة مساء) في حلقة يوم الاثنين الماضي الموافق 26 يوليو 2010م حيث قالت نصا: (حتي ولو كان أبناء الرحباني لهم كل الحق القانوني في مطالباتهم ولكن يبقي صوت فيروز فوق القانون). فقول مني الشاذلي هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس وما يعنيني في القضية برمتها. هذا القول الصريح والجريء من السيدة (مني الشاذلي) ليس هو ما دفعني وأثارني لتوجيه العتاب والنقد واللوم لها بصورة خاصة دونا عن غيرها ممن ساندوا السيدة (فيروز)، إنما الذي دفعني لذلك المكانة الحساسة للسيدة (مني الشاذلي) التي جعلتها تحظي بكثير من المتابعين لبرنامجها وكثير من المعجبين بحرفية أدائها الإعلامي، ما يعني أن السيدة (مني الشاذلي) تساهم بشكل كبير وفعال في صقل أفكار مشاهديها وتشكيل وعيهم وقيمهم وقناعاتهم، وهنا تكمن الخطورة فيما قالته السيدة مني الشاذلي وفي رؤيتها لصوت السيدة فيروز مبررا لفيروز في أن تكون فوق القانون. وهذا يدعونا بداية إلي أن نلفت انتباه جميع النخب إلي مراجعة رؤيتهم فيما يحملون من قيم، خاصة الأشخاص الذين يحظون منهم بقبول واسع بين الجماهير ويحظون بتأثير كبير فيهم، ذلك لأن قول السيدة (مني الشاذلي): (ولكن يبقي صوت فيروز فوق القانون)، يحمل من الخطورة ما يدعو إلي التساؤل حول ما نحمل من تناقضات في مضمون ومعني ومفهوم وحقيقة القيم، خاصة إذا كنا نعتقد أصلا أن القيم كل لا يتجزأ، لأن من أخطر التناقضات التي قد يقع فيها الناس خاصة من يتربعون منهم علي عرش الجماهيرية الشعبية هي تناقضات القيم والمبادئ، ففي تناقض القيم والمبادئ لدي هذه الشريحة عامل كبير وأساسي من عوامل خلخلة قيم المجتمع بأكمله، ولذلك اسأل السيدة مني الشاذلي سؤالا مباشراً وهو: هل يمكننا وفق رؤيتك اعتبار نجومية مني الشاذلي ومكانتها في قلوب مشاهديها وجماهيريتها الواسعة مبررا لها في أن تكون فوق القانون؟، فإن قالت لا، أقول لها فعلي أي أساس قيمي منطقي جعلت من مكانة صوت فيروز في قلوب سامعيها مبررا لها في أن تكون فوق القانون؟، وما المانع المنطقي الذي يمنع من أن تكون نجومية مني الشاذلي أو غيرها من النجوم مبررا لهم جميعا في أن يكونوا فوق القانون؟، وماذا لو تم ضبط السيدة فيروز وهي تتاجر في المخدرات مثلا؟، هل يمكننا ساعتها أن نقول إن صوت فيروز يجعلها فوق القانون؟، وبماذا ستجيب السيدة (مني الشاذلي) إذا سألها أحد جمهورها وقال لها: إذا كنت ترين أن صوت فيروز يجعل من فيروز شخصا فوق القانون، إذن فهل يجعل الفن من الفنان شخصًا فوق القانون؟ وهل يجعل العلم من العالم شخصًا فوق القانون؟، وهل يجعل الفكر من المفكر شخصًا فوق القانون؟ وهل تجعل السلطة من المسئول شخصًا فوق القانون؟ والإنسان الرمز في أي مجال كان هل تجعل منه رمزيته شخصًا فوق القانون؟، بل القاضي نفسه هل يجعل منه منصبه القضائي شخصًا فوق القانون؟ وأيهما تفضل السيدة (مني الشاذلي) وبأيهما تؤمن، أن يكون القانون فوق الجميع أم أن يكون البعض فوق القانون لقيمة البعض ورمزيته؟. وإذا كان لدي السيدة مني الشاذلي معيار قيمي حقيقي يجعل للبعض أحقية في أن يكون فوق العدل والحق والمساواة، فنتمني أن تقوم بإبراز ذلك المعيار حتي نستطيع من خلاله أن نثق في مصداقية ما تطرح من مبادئ وقيم سواء في أزمة السيدة فيروز أو في غيرها من الأزمات التي تتناولها في برنامجها. وكذلك لابد من أن ألفت نظر السيدة مني الشاذلي إلي حقيقة مهمة وهي: إذا كانت فيروز قيمة وقامة حقيقية بل ورمزاً فنياً عربياً حقيقياً ألا يوجب ذلك علي السيدة فيروز كما يوجب علي كل رمز ذي قيمة وقامة سواء كان رمزا دينيا أو سياسيا أو شعبيا أو حزبيا أو فكريا أو علميا أو إعلاميا أن يكونوا جميعا أول من يلتزم بالقانون ويحترم حقوق وممتلكات الآخرين؟، وأليس من الواجب علي جميع القامات والرموز أن يكونوا قدوة للناس في احترامهم للقانون وتقديرهم لحقوق وممتلكات الآخرين؟. فإذا اعترفنا بذلك فلابد أن نجعل القيم الأخلاقية خاصة ما يتعلق منها بقيم الحق والعدل والمساواة تعلو علي أي قيمة أخري وعلي أي شعور بالمجاملة لأي شخص كان، مهما بلغت رمزية أو قامة ذلك الشخص، ولا يجب أن تحملنا قيمة وقامة أي شخص كان علي استصغار أو تجاوز أو استسهال أو التسامح في قيم كالعدل والحق والمساواة، ويجب أن نعي جيدا أن معظم النيران من مستصغر الشرر، وأخيرا أتوجه إلي السيدة مني الشاذلي مطالبا إياها بضرورة تبرير ما قالته حفاظا علي مصداقيتها الإعلامية، وإن لم تجد مبررا قيميا لما قالته، فهل تملك من الشجاعة ما يجعلها تعتذر عن قولها: (ويبقي صوت فيروز فوق القانون)؟.