محمد منير يعاني من الإحباط ويتحسر علي ما وصل إليه حال الغناء من عبث وتهريج أدي إلي فساد الذوق العام. عمرو دياب يتواري عن الأنظار ليفاجئ جمهوره بحفل واحد في السنة أو يصدر ألبومه دون سابق إنذار. أنغام.. مشغولة بعدم تعاقد روتانا معها وتعيد حساباتها ببطء شديد جعلها تقف بعيداً عن المعترك الغنائي وتلتزم الحياد ..فهل ننتظر مرة أخري مطرباً مثل كاظم الساهر ليلتقط هذه الفرصة ليفرض حضوره ويملأ هذا الفراغ بالحفلات؟ هل هناك مؤامرة لإذلال الأغنية المصرية تحت أقدام المونولوجات لنفاجأ بأغاني «الخرونج والكينج كونج»؟ أم نحن في زمن لم يبق فيه من الغناء سوي «السنجلات»؟ «غناء العوالم» حالة التردي الغنائي ليست هي الأولي ولا الأخيرة، وليست هي نهاية المطاف، فقد مرت مصر بعد سيد درويش بموجات متتابعة من الهراء الفني تصدرت فيه الراقصات مقدمة المشهد الغنائي بعد أن خلطن الرقص المثير بالصرخات وفقر الكلمات والألحان، وهو نفس الأمر الذي تفعله الآن مؤديات الفيديو كليب علي الفضائيات فهذه الأغاني هي عودة إلي «غناء العوالم» وبدلاً من منيرة المهدية وتوحيدة وأسماء هناك مؤديات أخريات، ربما لا يستطيع المشاهد التعرف علي اسمائهن، فكل من هب ودب يمكن حاليا أن ينتج فيديو كليب ويهديه للفضائيات لكي تصدع به الرءوس طوال الليل والنهار. ولكن هل يمثل هذا الغناء نموذجًا للفن المصري الذي يمكن أن يكون سفيرًا حضاريا لنا بين شعوب المنطقة؟، بالطبع لا.. فنحن نحتاج إلي صحوة فنية تنفض عن كاهلنا هذا الركام، وتعيد إلينا ذلك الزخم الفني الذي ألفناه مع الجيل الذهبي للغناء في مصر، فنحن بحاجة إلي مطربة مثل أم كلثوم يرتفع صوتها فوق كل هذه الأصوات، لتكشف أنصاف المواهب، وتضع حدًا لهذا الانحدار، صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن مصر تمتلك من المواهب الكثير، ولن تعجز عن تصحيح ما فات. تصحيح الصورة العامة للوسط الغنائي يقع علي المطرب والجمهور وشركات الإنتاج، لأن الغناء في الحفلات تحول إلي «سبوبة» تفتقد في بعض الأحيان إلي نوع من الاحترام، فالمطرب لا يجد حرجًا في أن يغني أحيانًا علي طاولات الطعام ووسط المشروبات والمأكولات ،وهو أمر كان يرفضه إسماعيل ياسين عندما كان يلقي مونولوجاته الكوميدية في الأربعينيات، فلماذا يتقبله بعض المطربين الآن ولماذا يقبل المطرب أن يشارك في حفل بالمجان من أجل الترويج لمنتج معين أو إقامة برنامج دعاية لإحدي الشركات، بينما يري الجمهور واقفًا أمامه في زحام لا يخلو من المشاكل والمشاجرات. من الخطأ أن يظن المطربون أن متذوقي الغناء في مصر يقتصرون علي المراهقين، ومن الخطأ أيضًا أن يختزل المؤلفون والشعراء 90% من تجاربهم الغنائية في التعبير عن هذه الفئة دون غيرها من الفئات، لابد من إعادة الاحترام للغناء كفن وللمطرب كفنان وللحفلات الغنائية كوقت يجب أن يكون مهيئًا للسماع والاستمتاع، فمن أعجب المفارقات أن يضمن مشاهد كرة القدم مكانًا للجلوس في الاستاد بينما يقف الشباب في الحفلات الغنائية بالساعات، وتتصاعد فوق رءوسهم سحب الغبار. نحن من أطلق المهرجانات.. واليوم تتجاهلنا كل المهرجانات لم يعد الوسط الغنائي يؤمن الحد الأدني من المهرجانات أو أن تكون المهرجانات الغنائية عامل جذب للمطربين، بل وصلت الأمور إلي أن مهرجانا دولياً مثل مهرجان قرطاج للأغنية لا يتضمن برنامجه الحافل بأكثر من عشرين حفلاً اسم مطرب أو مطربة مصرية ونفس الحال في مهرجانات الخليج الغنائية والأعجب من ذلك أن يكثف المطربون المصريون جهودهم في حفلات الشواطئ، ولأول مرة تضطر دار الأوبرا المصرية في برنامجها الصيفي إلي أن تدرج أسماء بعض المطربين الشعبيين مع بداية شهر أغسطس لنفاجأ باسمي حكيم وهيثم شاكر، صحيح أنهما لن يقوما بالغناء علي المسرح الكبير بتقاليده المعروفة إلا أن هذا الاتجاه يشير إلي خلط في المفاهيم، فالأوبرا نفسها قد أصابها ما أصاب الجمهور وأصبح الغناء نوعًا من الترفيه. الخروج من عنق الزجاجة يحتاج لموهبة تمتاز بانسيابية أم كلثوم وذكاء عبدالوهاب وصدق إحساس عبدالحليم وتفاني عمرو دياب ودأب محمد منير، وفوق كل ذلك الانتماء لريادة حضارية تري أن الفن هو نبض الجماهير، ولو انفقت وزارة الثقافة العشرين مليونًا الخاصة بفيلم «المسافر» علي تصحيح مسار الغناء المصري انتاجًا وابداعًا لما وصل إلي حاله المزرية ولحصدت الحركة الغنائية الكثير، فالأزمة لها علاقة بتراجع الإنتاج الفني وانهيار الكيانات الانتاجية إلي حد كبير.