كتب - يوشكا فيشر وزير الخارجية الألماني السابق إن رفض تركيا (والبرازيل) لقرار فرض عقوبات جديدة علي إيران في إطار تصويت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الشهر الماضي، ليكشف بكل وضوح عن مدي نفور تركيا من الغرب. ولكن تُري هل نشهد الآن، كما زعم العديد من المعلقين، عواقب ما أطلق عليه السياسة الخارجية "العثمانية الجديدة" التي تتبناها حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، والتي من المفترض أنها تهدف إلي تبديل المعسكرات والعودة إلي الجذور الإسلامية الشرقية للبلاد؟ في اعتقادي أن هذه المخاوف مبالغ فيها، بل حتي في غير محلها. وإذا سارت الأمور في ذلك الاتجاه فمن المؤكد أن هذا سوف يكون راجعاً إلي تصرفات الغرب الناتجة عن مخاوف خاصة به وليس إلي السياسات التي تنتهجها تركيا. والواقع أن السياسة الخارجية التي تنتهجها تركيا، والتي تسعي إلي حل النزاعات القائمة مع البلدان المجاورة وفيما بين هذه الدول، والمشاركة التركية النشطة هناك، أبعد ما تكون عن التعارض مع المصالح الغربية. بل إن الأمر علي العكس من ذلك تماما. ولكن الغرب (وأوروبا بشكل خاص) سوف يضطر أخيراً إلي أخذ تركيا علي محمل الجد بوصفها شريكاً والكف عن النظر إليها باعتبارها دولة عميلة للغرب. إن تركيا عضو في مجموعة العشرين، وهو أمر طبيعي وضروري، وذلك لأن تركيا بفضل طبيعتها السكانية الشابة السريعة النمو سوف تصبح دولة قوة للغاية علي الصعيد الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. وحتي الآن فإن صورة تركيا بوصفها "رجل أوروبا المريض" لم تعد دقيقة علي الإطلاق. منذ انتقال الحكم من جاك شيراك إلي نيكولا ساركوزي في فرنسا، ومن جيرهارد شرودر إلي أنجيلا ميركل في ألمانيا، كانت تركيا تُعامَل باستخفاف وازدراء من قِبَل الاتحاد الأوروبي. بل إن الاتحاد الأوروبي فيما يتصل بقضية قبرص لم يتورع عن النكوص عن تعهداته التي بذلها لتركيا فقرر من جانب واحد تغيير القواعد المتفق عليها بين الطرفين. ورغم أن الأوروبيين كانوا فيما سبق ملتزمين بقرارهم بالبدء في مفاوضات الانضمام مع تركيا، فإنهم لم يفعلوا إلا أقل القليل لدفع القضية إلي الأمام. والآن فقط، بعد أن أصبحت الكارثة التي ألمت بالعلاقات التركية الأوروبية واضحة جلية، بات الاتحاد الأوروبي فجأة راغباً في فتح صفحة جديدة في المفاوضات (وهو ما يثبت بوضوح أن الطريق المسدود الذي آلت إليه الأمور كان نتيجة لدوافع سياسية). ولن نستطيع مهما حاولنا جاهدين أن نقلل من أهمية الموقع الجغرافي السياسي البالغ الحساسية الذي تحتله تركيا، وخاصة حين يتعلق الأمر بأمن أوروبا. والواقع أن الغرب لن يتمكن من دون دعم تركيا له من إنجاز أي شيء تقريباً في كل من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وبحر إيجة، وغرب البلقان، ومنطقة بحر قزوين وجنوب القوقاز، وآسيا الوسطي، والشرق الأوسط. ويصدق هذا كل الصدق، ليس فقط حين نتحدث عن السياسة الأمنية، بل أيضاً حين يتصل الأمر بسياسة الطاقة، إن كنتم تبحثون عن البدائل لاعتماد أوروبا المتزايد علي إمدادات الطاقة الروسية. إن أمن أوروبا في القرن العشرين سوف يتحدد إلي درجة كبيرة في جوارها من جهة الجنوب الشرقي وهناك علي وجه الدقة تشكل تركيا أهمية حاسمة بالنسبة للمصالح الأوروبية الأمنية، الآن وعلي نحو متزايد في المستقبل. ولكن بدلاً من توثيق العلاقات بقدر الإمكان بين تركيا من ناحية وأوروبا والغرب من ناحية أخري، تعمل السياسات الأوروبية علي دفع تركيا إلي أحضان روسياوإيران. لا شك أن تركيا أيضاً تعتمد إلي حد كبير علي التكامل مع الغرب. وإذا خسرت هذا فسوف يضعف موقفها بشكل جذري في مواجهة شركائها (وخصومها) الإقليميين المحتملين، علي الرغم من موقعها الجغرافي السياسي المثالي. والواقع أن رفض تركيا لفرض عقوبات جديدة علي إيران سوف يتبين في كل الأحوال أنه كان بمثابة خطأ كبير، ما لم يتمكن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من تحقيق تحول حقيقي في سياسة إيران النووية. بيد أن نجاحه في هذا أمر مستبعد للغاية. فضلاً عن ذلك، ومع تسبب المواجهة بين إسرائيل وتركيا في تعزيز القوي الراديكالية في الشرق الأوسط، فماذا تنتظر الدبلوماسية الأوروبية (سواء في بروكسل أو في العواصم الأوروبية)؟ إن الغرب، إلي جانب إسرائيل وتركيا ذاتها، لا يمكنه بكل تأكيد تحمل تبعات القطيعة بين هاتين الدولتين، ما لم تكن النتيجة المرجوة أن تستمر المنطقة علي مسارها الحالي نحو عدم الاستقرار الدائم. لقد آن الأوان لكي تتحرك أوروبا قبل أن يفوت الأوان. والأسوأ من ذلك هو أنه في حين بات عدم اكتراث أوروبا وخمولها واضحاً فيما يتصل بتركيا والشرق الأوسط في المقام الأول، فإن هذه الحالة المحزنة التي بلغتها الأمور لا تقتصر علي تلك المنطقة، بل ينطبق نفس الشيء علي جنوب القوقاز وآسيا الوسطي، حيث يتعين علي أوروبا بموافقة البلدان الموردة الأصغر حجماً هناك أن تسعي بحزم إلي تحقيق مصالحها في مجال الطاقة وفرض نفسها في مواجهة روسيا، كما ينطبق علي أوكرانيا، حيث يتعين علي أوروبا أن تشارك بجدية. إن العديد من التطورات الجديدة بدأت تتجلي في المنطقة بالكامل بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، ولقد نجحت الصين (البارعة في التخطيط البعيد المدي) في الدخول إلي مسرح الجغرافيا السياسية بوصفها لاعباً جديدا.