نظرا لأهمية الدين عند بني الإنسان سواء كانوا أفرادا أو جماعات، أصبح من العسير بل ومن الخطير في الوقت ذاته قصر وحصر القيام بالدين والقيام علي الدين علي طائفة بعينها، أو شخص بعينه، لما ينطوي عليه ذلك الاحتكار من أخطاء وخطايا بل وجرائم ليس في حق الدين وحسب، بل وفي حق الجماهير كذلك، حيث يقوم الإعلام الديني اليوم بكل أشكاله ومرجعياته الفكرية، حتي التابع منه للمؤسسات الرسمية كالأزهر والكنيسة عن طريق التكرار والإلحاح علي مسامع الناس أن فهم الدين قاصر وحسب علي طائفة أو فئة بعينها من دون الناس جميعا، فقاموا بإطلاق الألقاب ذات القداسة والصبغة الدينية الاحتكارية علي بعض الأشخاص ليرسخوا في نفوس الناس مشروعية ودينية احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث باسمه وفرض الوصاية الفكرية والدينية عليهم من خلال تلك الألقاب، وهي: (أسقف، شيخ، عالم، فقيه، راهب، مفتٍ، إمام، بابا، كاهن، داعية، مرجع، آية الله، حجة الله)، مما رسَّخ في وعي الناس وثبَّت في قناعاتهم أن من لم يحظ بموافقة ومباركة نيل أي من هذه الألقاب من قبل هذه الفئة فليس له الحق في فهم الدين أو التحدث فيه أو عنه. وكفي بهذه الخطيئة من جرم في حق الناس، إذ في احتكار الدين واحتكار فهمه والتحدث فيه وعنه هو عملية سلب مقصودة لحق الجماهير في التفكير في أهم وأقدس وأخطر خصوصية تهم إنسانيتهم في حياتهم وبعد مماتهم وهي خصوصية الدين، بل والأشنع هو إخراج الجماهير من الخطاب الإلهي الذي خاطب به الناس جميعا، وكأن الله لم يخاطب بدينه ورسالاته سوي فئة بعينها من الناس، أما بقية الجماهير فما هم إلا قطعان من الغنم يسوقهم الرعاة، وكذلك حرمانهم من أقدس حقوقهم الدينية والإنسانية علي الإطلاق، وهي المسئولية الفردية للشخص المؤمن عن معتقداته وأفعاله وسلوكياته واختياراته وطريقة عيشه أيا كان دينه، وأنه هو وحده دون غيره المسئول بمفرده عن كل قناعاته الإيمانية وكل سلوكياته الدينية والدنيوية، وأنه هو وحده وبمفرده من سيقع عليه تبعة قناعاته تلك وتبعة سلوكياته الدينية والدنيوية أمام الله يوم يقوم الناس لرب العالمين. فكيف يمارس الإنسان هذا الحق الفردي وهذا التكليف الذاتي؟ وكيف يستشعر هذه المسئولية الفردية وقد حرمته منها فئة بعينها قامت باحتكار وسلب واغتصاب أقدس وأخص حقوقه بل وإعفائه منها، وتحويله إلي شاة يقودها راعِ ينعق بها لتسير حيث يريد هو منها لا حيث تريد هي أن تسير؟ ويمكن القول إن الاحتكار الديني هو الأب الروحي والشرعي الذي فرخ كل ألوان الاحتكارات الأخري، فالاحتكار الديني الذي عشش وفرخ في رؤوس الناس منذ طفولتهم تسبب في ميلاد احتكارات أخري لا تقل بشاعة عن الاحتكار الديني، فالاحتكار الديني قد أدي إلي احتكار فئات بعينها لجميع مناحي وشئون الحياة الأخري، وهو ما نعاني منه جميعا الآن، فما احتكار الحقيقة السياسية والحقيقة الاقتصادية والحقيقة الفكرية والحقيقة الإعلامية وحق التفرد بالسلطة والوظيفة والمنصب وحق التفرد بالصلاحية القيادية إلا إفراز للاحتكار الديني، فنحن شئنا أم أبينا مجتمعات تعتاش وتقتات علي الدين، والدين هو إكسير حياتنا، سواء كان دينا حقيقيا أم توليفة عطار، والغالب الأعم أن من نراهم اليوم في الإعلام الديني لأي دين ليسوا بدعاة دين ولا رجال دين بل هم مجموعة عطارين يرتزقون من آلام الناس وأوجاعهم وجهالاتهم وحماقاتهم. فثقافة الاحتكار الديني التي يبثها القائمون علي الإعلام الديني اليوم بجميع توجهاتهم الفكرية والدينية علي مسامع الناس ليل نهار وأنهم هم وحدهم ملاك الحقيقة الدينية وهم وحدهم ملاك الفهم الحق للدين من دون الناس جميعا قد أدي وبشكل واقعي وحقيقي أليم إلي فقدان الجماهير الثقة في ذواتهم وفي عقولهم وفي أفكارهم وفي دينهم بل وفي ربهم و في إمكانية تحملهم للمسئولية الفردية عن أي شيء، بل كادوا يصلون إلي فقدانهم الثقة في صلاحيتهم للحياة، مما جعل من يحتكرون حقائق الأشياء لا يجدون كثير عناء في استغفال الجماهير واستحمارهم وامتطاء ظهورهم، مع أن عظمة الدين أي دين وبخاصة الدين الإسلامي وقمة عدالته وواقعيته أن نوه وأكد في عشرات المواضع من القرآن الكريم علي أهمية مسئولية الفرد وحده ليس فقط عن أعماله وسلوكياته واختياراته بل حتي عن فهمه وفكره ومعتقداته وأكد هذه الحقيقة في عدد من المواضع قائلا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (38- المدثر). (فَيوْمَئِذٍ لَّا يعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ). (25:26فجر). (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيهَا). (164- الأنعام). (يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا). (111- النحل). (وَاتَّقُواْ يوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيئاً). (48- البقرة). (يوْمَ يفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يوْمَئِذٍ شَأْنٌ يغْنِيهِ). (34: 37- عبس). فخطيئة الاحتكار الديني للدين وقصر فهمه والتحدث باسمه علي فئة بعينها أو أشخاص بعينهم يجعل هذه النصوص هي والعبث سواء. (للحديث بقية)