الحصانة في الأصل مسألة سياسية. كانت في المجتمعات القديمة تعطي للحاكم مباشرة ودون اتفاق، كشيء من العرف، تماما كما تعطي الحصانة للأب والأم أمام أولادهما، هذه المجتمعات الأبوية القديمة ملبثت أن تطورت إلي شعوب ودول وصارت الحصانة لحكامها من الملوك والأباطرة، مما فتح الطريق للمؤامرات علي الحاكم من ناحية، وأسس للديكتاتورية من ناحية أخري، احتاجت الشعوب إلي نضال طويل لتعيد الحكم إلي صورته الطبيعية، حكماً يخضع إلي رقابة الناس ممثلة في برلماناتهم، وانتقلت الحصانة لتصل إلي أعضاء البرلمان المنتخبين ممثلين للشعب، وهي حصانة أمام الحاكم لا أمام المحكوم، ومن ثم يمكن للسلطة القضائية أن تطلب رفعها في أي وقت، إذاحدث من النائب ما يشوب استغلال هذه الحصانة في المصلحة الشخصية. الملاحظ في بلادنا أننا نسمع عن حصانات كثيرة، حصانة للنواب وحصانة للدبلوماسيين وحصانة للعسكريين وحصانة للسلطة القضائية والملاحظ أيضا أن كل هذه الحصانات لم تمنع أصحابها من التعرض للنقد باستثناء المؤسسة العسكرية والهيئة القضائية، أصحاب الحصانة السياسية يتعرضون للنقد والنقاش كل يوم ابتداء من رئيس الجمهورية، وأصحاب الحصانة البرلمانية يتعرضون لنقد أقسي، والمؤسسة العسكرية جري العرف أنها بعيدة عن النقد لسرية أعمالها وشدة خصوصيتها، لكن كلنا من جيلي والأجيال السابقة علي الأقل يذكرون جيدا كيف تعرضت هذه المؤسسة لنقد شديد بعد هزيمة يونيو 1967 ، نقد تجاوز الحدود في بعض الأحيان، وتبقي المؤسسة القضائية هي الوحيدة التي لا تتعرض للنقد أو النقاش باعتبار أن القضاء ضمير الأمة والأحكام عنوان الحقيقة، وإن لم تغلق هذه الحصانة الطريق أمام أي شخص للشكوي أمام التفتيش القضائي أو استئناف ونقض الأحكام. في السنوات الأخيرة ارتفعت بعض الأصوات تطالب بحرية مناقشة الأحكام القضائية، وفي أحاديث صحفية كثيرة أبدي عدد من القضاة المحترمين عدم انزعاجهم من ذلك، ففي كل حكم هناك أسباب معلنة، وإن لم تكن هذه الأسباب كافية لعدم التعليق، فالمناقشة لا تقلل من هيبة القضاء خاصة أن طريق الاستئناف والنقض مفتوح أمام كل حكم. بلاشك شهدت السنوات الأخيرة أحكاما أثارت الفضول، وأثارت السخط أحيانا مثل أول حكم بالبراءة في قضية غرق العبارة السلام مما دعا النائب العام نفسه أن يعترض علي الحكم قبل مرور ساعات علي إعلانه. ولارتباط بعض الجرائم ببعض رجال المال والسلطة أثارت بعض الأحكام الدهشة وكثيرا من اللغط. وفي هذا الجو المتوتر والمشحون استمر القضاء في عمله التقليدي الطبيعي، أحكاماً تتلوها استئنافات ونقض، غير متوقف عند أي إثارة، وهذا هو الطبيعي في مهنة القضاء، أن يستقل القاضي برأيه عن أي مؤثرات غير شواهد القضية. هناك لا يزال عملاً ضرورياً في السلطة القضائية وهو أن يتم الفصل بين المحاكم العسكرية والقضايا المدنية وهذا أمر لا يزال مرهونا بحالة الطوارئ المفروضة علي البلاد، ولابد سيحدث يوما في اللحظة التي سيتم فيها إلغاء قانون الطوارئ. طيب لماذا أتحدث في هذا كله الآن؟ السبب طبعا هو ماجري أخيرا بين المحامين والسلطة القضائية بعد واقعة الشجار بين وكيل النيابة واثنين من المحامين في طنطا. احتشدت السلطة القضائية بسرعة للدفاع عن هيبة القضاء، وصدر حكم هو الأسرع من نوعه في تاريخ القضاء، واحتشد المحامون في إضراب واعتصامات وامتلأت الفضائيات بالنقاش الحاد. وهنا كان لابد من شيء من الحكمة، فالنائب الذي اعتدي عليه إذا كان حقا في بيته، المحكمة، فكذلك المحامي، فالمحاماة كما نعرف جميعا هي القضاء، الواقف. أليس هكذا يقال دائما؟ صحيح أن بين المحامين من يسيء الي سمعة المهنة، وربما اساء إليها حقا، لكن كما يقال دائما هذا لا يعني شرف مهنة المحاماة. والأمر نفسه في القضاء الذي تسجل المحاكم قضايا وأحكاما ضد بعض رجاله وصلت ببعضهم إلي السجن. في هذه المسألة كانت الحصانة هي الدافع للثورة في الجانبين، حصانة الهيئة القضائية المستقرة وحصانة المحامي في المحكمة، كل من استمعت إليهم من قضاة أو محامين في البرامج الفضائية تحدث عن هيبة المهنة، قضاء ومحاماة. والحقيقة أن فكرة الحصانة تتعلق بالعمل نفسه وليس بالشخص، لأنها إذا كانت تتعلق بالشخص ما كان هناك داع لرفعها أمام القضاء في بعض الأحيان . حين ترفع الحصانة عن نائب أو سياسي لمحاكمته يعني أنه يعود إلي طبيعته بعيدا عن مهنته التي تكفل له الحصانة، ومن ثم فإن ماجري هو اعتداء بين الجانبين ينطبق عليه قانون العقوبات العادي، الذي ينطبق علي الأفراد العاديين، وفيه من المواد المغلظة مايكفي إذا ثبت أن هذا الاعتداء كان أثناء العمل، ويتم تطبيقه علي أي معتد أو علي المعتدين جميعا، دون الحاجة للحديث عن الحصانة والهيبة لأن علي صاحب الحصانة أو الهيبة ألا يضع حصانته وهيبته أيضا محل اعتداء. أنا هنا لا أنتصر إلي أحد من الفريقين، ولكن أشعر بالفجيعة من التدهور الذي يحدث أمامنا كل يوم. وإذا كنا نقبله في الحياة العادية فمن الصعب أن يصل إلي المحاكم ويتبادله الفريقان، الواقفون والجالسون. العلاقة بين الاثنين في المحكمة هي القضية المنظورة، وليس الأصول والطبقات التي انحدروا منها ولا الثارات الشخصية. هذه فتنة يجب وأدها بسرعة، دون التنازل عن معني الحصانة الذي هو للمهنة . أي للاثنين معا في داخل المحكمة، وليس خارجها. أثناء العمل وليس قبله أو بعده. --------------- كأس العالم --------- نبتعد عما يوجع القلب ونتحدث في شيء من المسرة. كأس العالم هذه المرة شيء يدعو إلي الفخر لأن المسابقة تحدث علي أرض أفريقية، وفي دولة كانت يوما ما نظاما عنصريا لم يشهد التاريخ مثله في الفظاعة، اللهم إلا سنوات الحكم النازي في ألمانيا، تضم الدولة التي كانت عنصرية يوما ما فرقا من كل الدنيا، ومشجعين من كل العالم، ويتم الافتتاح في مظاهرة من الفرح وصلت بها شاكيرا إلي السماء. ولقد أراد الله أن يغيب بطل الاستقلال والحرية نيلسون مانديلا عن الحفل لوفاة حفيدته في حادث، وحرم العالم من طلة هذا المناضل الأسطوري الذي أواسيه من هنا. لا يعيب كأس العالم هذه المرة إلا غياب مصر عنه, لقد غابت مصر من قبل كثيرا لكن هذه المرة كانت الأقرب- قدر الله وما شاء فعل - وعلينا أن نشجع الجزائر فهي في النهاية قطر عربي شقيق لا يمكن أن تنفصم عري محبتنا لشعبه.