لو سألت أي سياسي عن أسهل الأشياء، وأكثرها حباً إلي قلبه، لأجاب علي الفور أن يخطب في الناس ، وأن يلهب حماسهم بالكلمات المعسولة، والوعود المستحيلة.. وإذا سألتهم عن أصعب الأمور بالنسبة له لأجاب بكل ثقة هي أن يتخذ قراراً وأن يشرع في تنفيذه.. فالسياسة في تعريف البعض هي فن «إلهاء الناس بالكلمات».. غير أن الرئيس مبارك له رأي آخر، أو بالأحري له موقف أخر، فهو لا يميل إلي دغدغة مشاعر الناس بالكلمات البراقة، ولا يميل إلي إطلاق الشعارات الرنانة.. بل يعشق لغة الفعل.. الرئيس مبارك يفعل، وتكمن بلاغته السياسية في لغة الأفعال لا الأقوال.. يفضل الرئيس لغة الصمت الفعال علي لغة الخطابة الفارغة.. ويفضل الأفعال المنجزة عن الكلمات المعبرة.. ولقد كان قرار الرئيس مبارك بفتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة من الجانبين ولأجل غيرمسمي ، وحتي إشعار آخر، قرارا ينتمي إلي هوايته المفضلة ، وهي لغة الفعل والإنجاز.. كان سهلاً علي الرئيس مبارك أن يدبج خطبة بلاغية يشجب فيها ويندد بالأفعال الوحشية لإسرائيل، وأن يعرب عن حزنه وأسفه للضحايا، وأن يستنكر صمت المجتمع الدولي. كان سهلاً عليه أن يقول كما قال كثيرون، وأن يستنكر بشدة كما استنكر آخرون ، غير أنه فضل أن يكون عمليا.. وأن يكون فتح الحدود بين مصر وغزة إيذاناً بكسر الحصار المفروض علي هذا القطاع منذ سنوات.. كان قرار الرئيس مبارك سريعاً، وكان توقيته مناسباً، وكانت ظروف تنفيذه مواتية.. ولذلك صح أن نشيد به، وحق أن نعتبره «ضربة سياسية» لإسرائيل ولسياساتها.. وفي المقابل، رأينا وسمعنا بيانات تشجب إسرائيل قولاً، وتبحث في تفعيل التبادل التجاري والثقافي بينها فعلا... تستنكر الهجوم الغاشم سكوناً، وترحب بالتعاون معها حركة.. تهاجم إسرائيل في العلن، وتبحث معها في السر العلاقات الثنائية.. إنه النفاق السياسي والانتهازية السياسية.. وهذان الأسلوبان لا محل لهما من الإعراب في سياسة مصر بقيادة الرئيس مبارك، فالسياسة المصرية لها وجه واحد، ولا تميل إلي سياسة الوجهين المتعارضين. كان الشاعر العباسي يري أن أفضل ما يمكن أن يوصف به القائد هو أنه يفعل ما يقول ، وأن أبغض ما يوصف به أن يعد بما لا يستطيع، وأن يعشم الأخرين بما لا يقدر «وأراك تفعل ما تقول.. وغيركم... مذق اللسان، يقول ما لا يفعل»... ولو كان الشاعر حياً الآن لحيا الرئيس مبارك الذي يفعل ما يقول وزيادة...