بطلنا تلقي قدرا من التعليم في كتّاب القرية واستمد كثيرا من معارفه من جلسته مع حكمائها، ومن الحق أن يقال أنه كان مستنيرا علي نحو ما. لم يكن يعمل في الفلاحة بل في مصنع قريب علي بعد عدة كيلومترات كان يقطعها مشيا علي الأقدام في الذهاب والإياب. وذات يوم بعد عودته من المصنع إلي القرية قبل الغروب بلحظات، وعندما اقترب من الترعة القريبة منها، فوجئ بحشد كبير من سكان القرية وعدد كبير من نسائها يرتدين السواد ويطلقن الصرخات وهن يبكين ويلطمن وجوههن في تعاسة وضياع، استنتج علي الفور أن أحد أبناء القرية قد مات غرقا في مياه الترعة وهو حادث يتكرر كثيرا، ولكن من تحرياته السريعة بجوار الحشد اكتشف عدم صحة هذا الاستنتاج، غير أن قلبه غاص بين جنبيه عندما رأي زوجته تقود فريق الصارخين الباكين اللاطمين، فصرخ فيها طالبا منها أن تهدأ ليعرف الحكاية، فقالت السيدة بأنفاس متقطعة بين العويل والنشيج: أنت تعرف ابنتنا الصغيرة.. كانت لهما طفلة في العاشرة من عمرها، استولي الفزع علي الرجل وصرخ فيها: ما لها يا امرأة... ماذا حدث لها..؟ أجابت: لم يحدث لها شيء.. ولكنها كما تعرف ستكبر يوما ما.. وتصبح شابة.. وتتزوج.. ثم تنجب طفلا.. هذا الطفل سيكبر.. ويوما ما سيأتي ليلعب هنا مع أصحابه.. ثم يسبح في هذه الترعة.. ولأنه لا يجيد السباحة لذلك سيغرق. قالت ذلك ثم أطلقت صرخة مدوية: يا لهوتي يابن بنتي.. ما مكانش يومك يا حبيبي.. صرختها الأخيرة كانت إشارة لأفراد الأوركسترا خلفها لينطلقن في الصراخ والعويل، تمكن الرجل أخيرا من السيطرة علي الأوركسترا وصاح فيهم: آه يا بلهاء.. لم يعد لي عيش معكم بعد الآن.. هذا فراق بيني وبينكم.. لم أعد قادرا علي تحمل المزيد من البلاهة.. ومع ذلك ولكي لا أظلمكم.. سأسافر بلاد الله لخلق الله.. سأتعرف علي شعوب أخري وعقول أخري.. وطرق أخري في التفكير.. إذا وجدت من هم أشد منكم بلاهة.. عدت للعيش معكم راضيا بما قسمه الله لي من تعاسة العشرة مع بلاهتكم. لنترك بطلنا يغادر القرية بعيدا عن أهله وأحبابه بحثا عن بشر يفكرون علي نحو صحيح، ولنتوقف نحن هنا قليلا لنفكر في منطق وسلوك هذه السيدة، لقد حولت المخاطر البعيدة الأقرب إلي الهواجس المرضية إلي خطر حال داهم ، هي باحثة عن التعاسة المطلقة، غير أن واقعها المستقر في القرية حرمها من الوصول إلي تلك الدرجة العليا من التعاسة، لذلك قادت هي تفكيرها لكي يمشي في مسارات تبدو منطقية ومعقولة بهدف الوصول إلي التعاسة المطلقة.. استمع جيدا إلي الزعماء المتطرفين في منطقتنا، لاحظ طريقة تفكيرهم والمنطق السهل الصارم الذي يلجأون إليه لكي يصلوا بك إلي معايشة لحظات التعاسة المطلقة ولكن ما (مصلحتهم) في ذلك؟ سؤال شهير، والإجابة عنه هي: هم يريدون أن (يتحققوا).. التحقق، هو الهدف النهائي للجهاز النفسي عند كل مخلوق علي وجه الأرض، فعندما تجد زعيما متطرفا يتخذ قرارات من شأنها أن تصيب أهله بالتعاسة المطلقة فاعلم أعزك الله أن هدفه من ذلك هو أن يتحقق علي المستوي النفسي، هو باختصار (يريد) ذلك. ولتغطية حقيقة تلك الرغبة أمام الآخرين من ضحاياه هو يلجأ عادة لقضايا ذات طبيعة لها قداسة مثل محاربة الإمبريالية مثلا أو مقاومة قوي الشر والاستبداد أو الوطنية أو الحفاظ علي الثوابت.. إلي آخره.