أهمية صفقات اللحوم في العلاقات مع إثيوبيا توقفت بالأمس، في مناقشتي الراصدة لنقاط الاختلاف والاتفاق مع الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس ادارة الأهرام في مقاله «أخطار علي نهر النيل» المنشور بالأهرام يوم السبت، عند انتقاده لإعطاء السياسة الخارجية المصرية أولوية الاهتمام للمشرق العربي علي حساب الجنوب.. وتحدثت عن أن هذا يعكس جدلاً مصرياً متكرراً ناتجاً عن تنوع الاهتمامات المصرية وتعدد نطاقات المصالح وثراء الوعاء الثقافي المصري.. وأشرت إلي أنه بدلا من انتقاد التوجه إلي المشرق فإن هناك مبدأ منهجياً في السياسة الخارجية عنوانه «الأولويات المتزامنة».. أي ألا تكون أولوية بديلاً لأخري.. وإنما تتحرك كلها في توقيت واحد نحو أهداف متعددة. لا يمكن مقارنة الاهتمامات الاستراتيجية الإقليمية لمصر بالاهتمامات الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة.. ولكن تركيز الولاياتالمتحدة علي ملفات إيران والعراق وأفغانستان في آسيا لا يعني إطلاقا أنها أعطت اولوية لتلك الملفات تنفي اولوية ملفات كوريا الشمالية والصين والعلاقات مع الهند.. كما أن تركيزها علي النطاق الآسيوي لا يعني أنها تراجعت عن الملفات الأفريقية.. أو عن ملفات ظهيرها الجنوبي في أمريكا اللاتينية.. لكن بعض الملفات تستوجب جهدا أكبر من غيرها.. وتفرض سخونتها تحركاً أسرع وأكثر توالياً من الأخري. وكما أن تعدد المصالح يفرض منهج «الأولويات المتزامنة»، فإن طبيعة العصر تفرض منهج «الدوائر المتقاطعة».. إذ أن متغيرات العولمة وتشابك العلاقات وتعدد التوازنات توجب الانتباه إلي تلاحم وارتباط مختلف نطاقات اهتمام المصالح.. وفي الحالة المصرية - كمثال - فإنه لا يمكن التعامل مع ملفات التفاعل المصري أفريقياً بمعزل عن علاقات مصر الأوروبية، وفي حالة ملف دول حوض النيل فإن مقوما أساسياً في بناء التفاعل يقوم علي علاقة مصر بالدول المانحة وهي في أغلبها أوروبية، ومن المفهوم أن علاقات مصر الأوروبية مرتبطة مباشرة بملفي المشرق العربي والتعاون المتوسطي.. ما يعني - في هذا المثال - أنه لا يمكن فصل نطاق المصالح النيلية عن نطاق المصالح المصرية في المشرق العربي فضلاً عن نطاق التفاعل المصري - الأوروبي متوسطياً. النطاقات الاستراتيجية للمصالح المصرية لا تحتمل ترف استبدال أولوية علي حساب أخري.. وقد كان يمكنني أن أتفهم ما قال الدكتور عبدالمنعم لو أنه قال إن علينا أن نولي جهدا أكبر لملفات الجنوب المتصاعدة.. أو أن المتغيرات تفرض علينا تحدياً ببذل مزيد من التحرك في هذا الاتجاه.. لكنه طرح «يوم السبت» معني أن نولي وجهنا شطر الجنوب علي حساب قضايا المشرق العربي.. وهذا اقتراح لا أؤيده.. وأختلف معه تماماً.. في ضوء المعني الحقيقي لنطاق المشرق العربي.. الذي تقع فيه مصالح استراتيجية مصرية تاريخية وثابتة.. بدءاً من ملف فلسطين - ملف العراق - ملف أمن الخليج - ملف الشام ولبنان - وما يرتبط بذلك كله من رغبة في التوسع التركي.. فضلاً عن مساعي الهيمنة الإيرانية. ولا يمكن أن نترك ساحة لكي ننجح في ساحة غيرها، هذا كلام يفيد الخصوم والمنافسين الإقليميين وعلي رأسهم إسرائيل وإيران.. وليس هذا بالطبع ما يريد الدكتور عبدالمنعم سعيد.. في ضوء أنه أكثر الاشخاص دراية بأن هاتين الدولتين تحديداً تمارسان تحركاً نوعياً في دول حوض النيل.. وسوف نعود إلي مسألة إيران فيما بعد.. وفي سياق أشمل. جانب آخر في هذه المسألة يتعلق بطبيعة الأهداف التي نتحرك لتحقيقها في نطاق المشرق وفي نطاق حوض النيل.. ذلك أنه علي الرغم من أن عوامل مختلفة للأمن القومي المصري مرتبطة بالسعي إلي إعادة التوازن والاستقرار لأوضاع المشرق.. فإن تحركنا في هذا المجال الجغرافي مرتبط بشموخ الدور المصري وتجسيد تأثيره.. واحتياج الآخرين إليه بقدر أعلي من احتياجنا نحن.. في حين أن التحرك في نطاق حوض النيل ليس فقط مرتبطاً بأمور تخص متطلبات الأمن القومي وإنما في الأساس لأن لنا احتياجاً مرتبطاً بالمصالح المائية.. وهناك فرق جوهري بين أن يكون مبرر أساس التحرك يقوم علي احتياج الأطراف الأخري وبين أن يكون دافع التحرك يقوم علي أساس الاحتياج الذاتي. ويحاجج الدكتور عبدالمنعم في مقاله لدعم فكرته (استبدال الدائرة النيلية بالدائرة المشرقية) بالحديث عن قلة الإمكانيات المصرية وضعف الموارد المصرية في سياق الدفاع عن ضرورة إعطاء الأولوية للجنوب.. إن المطروح هنا يشابه ان نطلب من أب متوسط الحال ان يفاضل بين ولديه.. فيربي هذا بكل ما أوتي من قدرة.. ويتجاهل الآخر.. أو يدلل هذا.. ويظلم ذاك. سياسياً، هذا كلام يمكن استيعابه إذا كانت التحركات المصرية والتفاعلات المختلفة تقوم علي أساس دبلوماسية الدولار والشيكل والريال وكل العملات الأخري.. لكن الجميع يدرك أن النشاط المصري الخارجي، في ضوء إدراكه لقدراته، فإنه يوظف إمكانيات القوة الناعمة المصرية والكفاءات المختلفة والمنهجية والعلاقات التاريخية التي يتواصل بناؤها لخدمة أهداف السياسة الخارجية.. وليس بالاعتماد علي منطق المنح والمنع الذي لا يؤدي إلي تثبيت المواقف التي يتم بناؤها علي أساسه.. والأمثلة كثيرة جدا «دارفور وقطر نموذجاً». وأتفق مع الدكتور عبدالمنعم في أن سياستنا الخارجية تجاه دول حوض النيل تحتاج إلي مراجعة، إن مراجعة السياسة مبدأ واجب الاتباع والتطبيق في كل الأحوال فما بالنا حين تكون هناك متغيرات جديدة.. وأتفق معه - وتناولت هذا من قبل - في أننا لا نعرف كنخبة مجتمعات حوض النيل كما ينبغي.. وإن كنت أتساءل: لماذا لا يدفع الأهرام بحشد من محرريه إلي عواصم دول حوض النيل لكي يكونوا مراسلين دائمين هناك.. هذا اقتراح مني للزميلين د. عبدالمنعم سعيد والأستاذ أسامة سرايا باعتبار الأهرام أقدر مالياً من كل الصحف القومية علي ذلك. إلا أنني لا يمكن أن أتفق معه «د. عبدالمنعم» في تخفيفه من أهمية التحركات الاقتصادية في اتجاه دولة بارزة من أهم دول حوض النيل.. وتحديدا تقليله من قيمة صفقة اللحوم الإثيوبية.. كما جاء في مقاله يوم السبت. ذلك أن هذا النوع من العمل، حتي لو تأخر، وحتي لو كان لابد له أن يكون أكبر، وحتي لو كان علينا أن نعدد مجالاته، هو توجه حيوي.. يؤكد تفاعلات المشاركة التنموية بين مصر ودول الأشقاء في حوض النيل.. وهو يقوم علي الندية.. ويحقق المصالح المشتركة.. إذ يستوعب صادرات إثيوبيا من اللحوم الحية.. ويلقم سوق اللحوم المصري بعضاً مما يقلل من سعاره.. ولا يخفي علي الدكتور عبدالمنعم كم قاوم أباطرة اللحوم في السوق المصري مثل هذه الصفقات.. دون أن يكونوا مشغولين بالطبع بالأهمية السياسية لتلك العمليات الاقتصادية بيننا وبين إثيوبيا. ولكني لابد أن أسجل أن الدكتور عبدالمنعم عاد في مقاله يوم الاثنين لكي يولي اهتماماً أكبر بمسألة علاقات التنمية مع دول حوض النيل.. فيما بدا أنه مراجعة منه للنقطة التي أثارها يوم السبت.. ضمن مراجعات أخري.. وفي هذا لابد أن أقول: إن علاقات التنمية لا تنشأ فجأة.. وأن مثل تلك الصفقات في مجال اللحوم قد تكون مدخلاً إليها أو لبنة فيها.. ناهينا عن أن اتفاقية الكوميسا كنموذج للتعاون الاقتصادي بين مصر وشرق أفريقيا تضم من دول حوض النيل كلاً من: إثيوبيا، بوروندي، الكونغو، كينيا، رواندا، السودان، أوغندا. ربما كانت تلك فرصة طيبة لعملية «إعمال عقل» واسعة بين أصحاب الرؤي في مصر.. فرضها «تحدي النيل».. بدون أن نعرض أنفسنا إلي عواصف صدمة مرضية.. أو استخفاف غير حميد. وإذا كنت قد سجلت تلك الملاحظات الصريحة علي ما كتب كاتب قدير ومفكر كبير، فإن هذا لا ينفي أن ملف «تحدي النيل» يدعونا إلي مناقشة قضايا أخري متنوعة يفجرها الأمر.. وإن كان لم يزل في تعليقي علي ماكتب ملاحظات إضافية. [email protected] www.abkamal.net