عندما كان د. بطرس بطرس غالي وزير دولة للشئون الخارجية، كانت له اهتمامات خاصة بأفريقيا، وكان يعتبر دول أفريقيا هي العمق الاستراتيجي لمصر سواء من نحو الموقف من إسرائيل والغرب أو بسبب تحكم دول حوض النيل الأفريقية في منابع النيل، ولذلك كان د. بطرس غالي يقيم علاقات مستمرة دافئة مع معظم الدول الأفريقية، وأتذكر جيدًا حقبة الثمانينيات حيث كان اسم بطرس غالي يتردد في كل زياراتي لإحدي دول أفريقيا فكان معروفا ليس فقط علي المستوي الرسمي بل علي المستوي الشعبي، وعندما اختير بطرس غالي أمينًا عامًا للأمم المتحدة كانت إسرائيل هي أكثر الدول سعادة لأنه سيترك أفريقيا لكي تكون مرتعًا لها ولسياساتها وهو ما تحقق بالفعل، حيث بدأت إسرائيل في إقامة علاقات دبلوماسية حتي بينها وبين الدول العربية الأفريقية مثل موريتانيا، وكذلك علاقات غير رسمية مع السودان، وبدأت تتدخل في الصومال هذا غير تغلغلها المستمر في القارة من جنوب أفريقيا إلي كينيا وباقي الدول الأفريقية الغنية بالبترول مثل نيجيريا واستطاعت إسرائيل أن تضع لها قدمًا راسخة هناك، ولم تستطع مصر أن تستكمل أو تقوض ما ربحته من دول أفريقيا في عهد بطرس غالي، وكان من أهم ما يحرص عليه بطرس غالي هو الاتفاق مع دول حوض النيل وخاصة أوغندا وأثيوبيا، وبسبب تدخل إسرائيل في أفريقيا وغياب مصر بدأت أثيوبيا في بناء بعض السدود ولغياب مصر عن الساحة لم تكن تدري ببناء هذه السدود، وعندما وقعت المفاجأة خاصة أن دول المنبع أعلنت أنها ترفض الاتفاقية الأمنية بين دول المنبع أثيوبيا وأوغندا من ناحية ودول المصب مصر والسودان من الناحية الأخري، قام د. نظيف بزيارة سريعة إلي السودان وأثيوبيا مهد فيها لاجتماع شرم الشيخ والذي لم تصل فيه هذه الدول إلي اتفاق واضح بهذا الشأن، خاصة أن العالم كله يتوقع أن الأعوام القادمة سوف تكون فيها الحروب بين الدول علي المياه لأنه من المتوقع أن يكون هناك جفاف يعم معظم أنحاء العالم وخاصة أفريقيا، ولقد وضح من اجتماع شرم الشيخ الأخير أن دول منابع النيل تتضامن معًا ضد دول المصب، ومن المتوقع أن يكون لها موقفًا أكثر تشددًا في المستقبل حيث إنها وبلا شك هي الطرف الأقوي في المعادلة ومن الواضح أن إسرائيل شجعت الولاياتالمتحدة للتعاون مع هذه الدول وذلك للضغط علي مصر وبقوة، وقد أقامت إسرائيل عدة مشروعات مهمة مع أثيوبيا بالذات، وقد بدأت أثيوبيا بالفعل تنفيذ خطة لإقامة عدد من السدود منذ عام 2002 تكفي لاحتجاز وتخزين مليار متر مكعب من المياه، إلا أن المسئولين المصريين هونوا من هذا الأمر علي أساس أن هذه السدود ليس لها تأثير مباشر علي حصة مصر من المياه، ونحن نشك في مثل هذا الأمر فالصحف الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية تتحدث عن أن بناء مثل هذه السدود سيكون بمثابة تهديد للحياة في السودان ومصر، وأن دول المنبع تحاول إنقاذ نفسها من الجفاف القادم علي حساب دول المصب وأنه إذا كان الضرر ليس حالاً اليوم، إلا أن المتوقع أن تغيير المناخ في السنوات القادمة وظاهر الاحتباس الحراري سوف يكون لهما شأن ضخم في تغيير الصورة في مصر والسودان، وأنه كان من واجبات السياسة المصرية أن تضع الأمن المائي علي قمة أولوياتها ولكي تصحح مصر هذا الموقف عليها أن تبدأ في الاهتمام بدول حوض النيل بطريقة مختلفة عما سبق أي بإقامة مشاريع تنمية مشتركة تقوم فيها مصر بتعضيد هذه الدول، وتحويل مشروعات حفر آبار جوفية لاستخدامات مياه الشرب وتطهير البحيرات الكبري من التلوث الذي أصابها. إن الاهتمام بمصادر مياه نهر النيل هو قضية حياة أو موت، ونحن نري من حولنا دولاً تشتري المياه باللتر بينما يجري نهر النيل عبر بلادنا يمنح الخير علي مدي آلاف السنين، وعلينا أن نعمل بحيادية للحفاظ علي هذا الكنز قبل أن يتسرب من بين أيدينا.