لابد من التفكير الطويل المتزن قبل إصدار الأحكام القاسية التي تتعلق بالخيانة الوطنية، فلا يحق لأحد أن يفتش في ضمائر الآخرين، وليس ميسورا أن يُسلب من الإنسان، أي وكل إنسان، أعز ما يملكه شرف الانتماء الوطني. في الثامن عشر من أبريل سنة 1979، وفي ظل الانهيار الكامل لسلطة الدولة اللبنانية، الممزقة تحت لعنة ووطأة الحرب الأهلية، أعلن الضابط اللبناني المنشق سعد حداد، الذي يحمل رتبة الرائد، عن قيام دولة مستقلة في منطقة الشريط الحدودي التي تسيطر عليها ميليشياته، وأطلق علي دولته الهزيلة هذه اسم «لبنان الحر»، مؤكدا عن تحالفها غير المشروط مع إسرائيل. النتيجة الأهم لهذا التحالف المشين هي ارتكاب المذابح والمجازر ضد أبناء الشعب اللبناني، وكم تبدو كلمة «الحر» غريبة نابية عندما تقترن بكيان عشوائي عميل، تتمثل رسالته الوحيدة في الإشادة بتحضير الجيش الإسرائيلي، والتفاني في إظهار الولاء لقادته. لا تعمر هذه الدويلات الهشة إلا بالقدر الذي تؤدي فيه هدفها وتستنفد أغراضها، وقد تبخر الرائد سعد حداد، ولم يجد من يدعمه أو ينتشله في ساعات الاحتضار، لكنه يبقي نموذجا لطراز من الخونة المحترفين، الذين لا يتورعون عن المباهاة بالسقوط والتفريط، ويتبجحون بالكلمات الرنانة الكاذبة لتبرير ما يستحيل الدفاع عنه. قبل ربع قرن من ميلاد دولة الرائد العميل، كان الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، مدفوعا بارتباك يسيطر علي الساحة السياسية، وتختلط معه القيم والمعايير، يكتب في إحدي روائعه: «إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون أيخون إنسان بلاده؟ إن خان معني أن يكون.. فكيف يمكن أن يكون؟» ما أروع أسئلة وتساؤلات الشعراء، لكن اليقين الراسخ أن الخونة لا يقرأون الشعر!