ثلاث سنوات هي عمر انتظامي في كتابة اليوميات. كانت الاستراتيجية في البداية أن تكون كتابة اليوميات مُنشِّطاً مؤقتاً للكتابة الحقيقية التي لا أعرف تحديداً لها سوي أنها كتابة لا تخضع للالتزام، وتأتي حسب المزاج والأهواء. كان لليوميات أن تكون الحارس الشخصي للتبطُّل والفراغ والكتابة السلبية الحقيقية التي لا تتعدي أحياناً أحلام يقظة تصطدم بجدران وسقف الغرفة، إلا أن الانتظام في كتابة اليوميات حرمني من ساعات التسكُّع الطويلة علي جدران وسقف الغرفة مع إمكان كتابة سلبية حقيقية كان لها أن تكون أو تقترب خطوة من الوجود لو لا عبء النظام. قرأتُ وسمعتُ كثيراً أن اليوميات في الغالب تكون عملاً جانبياً قياساً بعمل الصدارة الفعلي الحقيقي. كان الإحراج أنني شُغلتُ حتي عن التفكير الهوائي في أعمال حقيقية من المُفترض لي الضلوع في تأليفها مستقبلاً، بل شُغلتُ أيضاً عن إعادة النظر في أعمال كافكا وبروست وجويس إلا إذا كان الثالوث الذهبي عبداً في بلاط اليوميات، كما كان ديلامارش وروبنسون وكارل روسمان عبيداً عند البدينة برونيلدا في رواية أمريكا. اليوميات علي مدار السنين تصاب بالبدانة والترهل، بل لم تسلم يوميات كافكا نفسه من سمنة النواح علي الأرق والزواج والعمل. أصبحتْ حياتي مع اليوميات مثل كتابٍ قرأته في الماضي كثيراً، وتمثَّلتُ معانيه بعمق في ساعات الفراغ فقط لعجزٍ عن الذهاب لشيء أفضل، واليوم مع كتابة اليوميات كنتُ مُطَالَبَاً بدليلٍ علي هذا التمثُّل، اليوميات بانتظامها وإلحاحها وشراهة بطنها تطلب الطعام ملموساً فجاً، وتزاحمني ببدانتها المُنفِّرة، كما كانت تفعل برونيلدا بكارل روسمان في شرفة ضيقة، فلا بد لي من العودة إلي الكتاب، لكنني لضيق الوقت لا أستطيع تمثُّله إلا عبر قفزات عصبية علي صفحاته. وعندما أنظر إلي أصدقاء يكتبون يوميات، وينجزون في نفس الوقت عملاً حقيقياً، أشعر بخجلٍ شديد، وأقوم برد قدراتي الضعيفة إلي خلل عقلي، وأقول في نفسي إمعاناً شطب الذات: وماذا كنتُ تفعل قبل جحيم السنوات الثلاث من عمر اليوميات؟ علي الأقل أنتَ الآن ممسكُ بشعرةٍ في ذيل فرس الكتابة، ويكفيك الانتساب إلي المهنة كأماتور، ألم تكن تغني لروح الهواة المشردين، وتشعر بالتعالي علي المحترفين الذين أخذوا الكتابة مداساً منتظماً، نجيب محفوظ، توماس مان. يكفيك البحث عن واحد من سلالتك كان مدعوماً بالكحول مثلك، ممروراً من الحياة، محباً لمملكة الحيوان، واضعاً علي تاج المملكة حيوانه المُفضَّل، الضبع بضحكته المرعبة، قارئ كتب غير مُكتملة، باحثاً مُدققاً في مَشاهِد سينمائية، يكفيه رؤية جزيرة عليها ليف أولمان وبيبي أندرسون في فيلم برسونا حتي يشعر بهواء البحر علي وجهه. اليوم من السماء سقط شيء علي أرضنا، ومن لغتنا العامرة بالمفردات أسماه الجميع بتسرُّعٍ اسماً سقط قريباً من هذا الشيء. كنتُ أفضِّل أن أشير إلي هذا الشيء، فالإشارة تناله في مقتلٍ، بعكس الاسم الساقط قربه كما سقط هو من السماء. وبعد أيام كانت إشارة يدي إلي هذا الشيء خليطاً مشوشاً من إشارات عديدة تصلح لتحية أحد الرؤساء في عربة ليموزين مكشوفة لجمهور غفير مشقوق علي جانبي الطريق، والاعتذار الهين لاصطدام كتفي بكتف شخص غريب في ازدحام سوق، والانحناءة المُهذَّبة لسيدة تحمل رضيعاً بأن لا تتقدم ناحيتي أكثر من هذا، والإشراق المُباغِت لإدراكي أن شعوراً بالنفور مر بي في حياتي من جراء أحداث كان لها أن تكون غير ما كانت عليه لو كانت استجابتي لها غير ما كانت عليه. كيف تختلط الإشارة إليه إلي هذا الحد، وهو الشيء الفريد. قال لي واحد من مَنْ أسماه باسمٍ عرفه الجميع: كان الاسم في البداية أيضاً يصيبه في مقتلٍ، ومع مرور الأيام بدا الاسم، وكأنه يسقط قريباً من هذا الشيء، وكثيرون غيرك أيضاً اعتقدوا أن الإشارة إليه أكثر صواباً وتجريداً له، ومع انزياحه شيئاً فشيئاً إلي إشارات عديدة، كان رد فعلهم عنيفاً، ورجعوا إلي الاسم الذي أُطلق عليه في البداية، وعلي هذا لم يبق سواكَ مُتمسكاً بالإشارة إليه، كما يتمسَّكُ راكب خيلٍ سيئ بذيل فرسٍ بعد ذل سقوطه.