أحد أبرز مشاكل النخبة المصرية، أنها تدعي العمل ليل نهار لإقامة الدولة المدنية، بينما تقوض في تصرفاتها العملية كل الأركان الواجب الحفاظ عليها لمثل هذه الدولة المدنية، ولدي نموذج صارخ علي هذه الازدواجية التي تعاني منها النخبة المصرية، وتكاد تصل بها إلي حالة فصام في الشخصية. تابعت، مثل غيري، علي صفحات الصحف أمس مشهدين مختلفين في المكان متشابهين في المضمون، وهما أداء الدكتور محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاة الجمعة في الحسين بالقاهرة، وأداء الدكتور أيمن نور الرئيس السابق لحزب الغد صلاة الجمعة أيضا لكن في مسجد السيد البدوي في مدينة طنطا. وقام البرادعي ونور بعد الصلاة بجولة انتخابية، حيث التقي البرادعي المواطنين في خان الخليلي، بينما ألقي نور خطبة سياسية في جماهير المصلين خارج المسجد بعد انتهاء الصلاة، ولسنا في حاجة للتأكيد علي المعاني السياسية التي استهدفها الاثنان من الصلاة وهما يسعيان إلي الترشح لرئاسة الجمهورية في انتخابات العام القادم. وبالقطع لست ضد أن يؤدي من يعمل في الشأن العام الصلاة، فهذا شأنه وعلاقته مع الله، لكن المثير للانتباه هو أن الاثنين من أنصار الدولة المدنية، لكنهما اختارا إطلاق حملتيهما الانتخابية من المساجد، ليس فقط لتأكيد إظهار الإيمان والصلاح والورع في مجتمع متدين، وإنما لإكساب العمل السياسي بعدا دينيا ليس خافيا علي أحد. وهذا يجرنا إلي خطأ تاريخي تقع فيه النخبة المصرية دون استثناء، بداية من السبعينيات حينما حرص الرئيس الراحل أنور السادات، علي إطلاق لقب الرئيس المؤمن علي نفسه، وشجع التيارات الدينية علي النشاط في مجالات عدة، لمواجهة اليسار الذي كان يعارضه بشدة، مما أدي إلي حالة من الخلط طوال أحد عشر عاما حكم فيها مصر بين السياسة والدين، لا نزال حتي الآن نعاني منها. وأحد ابرز أخطاء الدولة المصرية، أنها حين حاولت منع الإسلام السياسي من التمدد نافست هذا التيار في تديين الدولة ، مما أثر كثيرا علي الصورة المدنية التي ينبغي للدولة أن تظهر بها لمواطنيها، خاصة في مجتمع متعدد الأديان مثل مصر. لكن منذ سنوات بدا للجميع أن هذا الخلط بين الدين والسياسة يقودنا إلي مشاكل جمة، مما أدي إلي تعرض مشروع الدولة المدنية لانتكاسات كبيرة ومتكررة، استدعي تعديلا دستوريا عام 2005 ينتظر أن يتبلور في تشريعات قانونية تجرم الشعارات الدينية في العمل السياسي والانتخابات علي جميع مستوياتها. وما قام به البرادعي ونور بتدشين حملاتهما الانتخابية علي أبواب المساجد هو عودة جديدة لخلط الدين بالسياسة، وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلي مزيد من الانتكاسات لمشروع الدولة المدنية الذي تسعي النخبة لدعمه والحفاظ عليه منذ سنوات، لكنها تصيبه في مقتل بمثل هذه التصرفات التي تجعل السياسة في هذا البلد تنطلق من منابر المساجد.. ولا يستبعد بعد ذلك ان نري ملصقات الانتخابات المقبلة إذا استوفي البرادعي ونور الشروط الدستورية وهي تقول: انتخبوا الحاج محمد البرادعي.. ولا تنسوا المرشح المؤمن أيمن نور!