لا أشعر بأي تأنيب للضمير وأنا أكشف لكم لغز فيلم Shutter island أو جزيرة شاتر المأخوذ عن رواية كتبها دينيس ليهان وسيناريو لايتا كالوجريدس واخرجه مارتن سكورسيزي. فالفيلم أبعد بكثير من كونه فيلما بوليسيًا يحرقه أن تذكر للمشاهد من الجاني. أنه لا يأخذ من الفيلم البوليسي التشويقي إلا الشكل فقط، ولكنه أساسا دراما نفسية متقنة الصنع تطرح أسئلة اكثر مما تقدم اجابات، هو فيلم ينتمي إلي عالم بيرانديللو أكثر مما ينتمي إلي عالم هيتشكوك الكاتب المسرحي الأشهر كان يكرس فكرة الحقيقة النسبية، واستخدام اكثر من منظور لمشاهدة الشيء الواحد تماما مثل لوحات رواد التكعيبية خاصة بيكاسو الذي رسم نساءه من أكثر من زاوية. جزيرة شاتر يتلاعب بالسرد، ويمارس حيلة فوضي الهويات لكي تخرج منه بطوفان من الأسئلة عن العقل والجنون، والبحث عن الحقيقة والهروب منها، والقتل باسم الوطن والقتل باسم الجنون، والحياة في الخيال والحياة في الواقع، أنت هنا تعيد تقييم أمور كثيرة وتتأملها بشكل أعمق بعد أن يؤدي التشويق دوره ليوصلك بسلام إلي مشاهدة النهاية. ليس أهمية جزيرة شاتر في طريق السرد والتي تنقل لنا طوال الوقت الأحداث من وجه نظر رجل مريض عقليًا، فهناك افلام سابقة حققت نفس المعادلة أبرزها فيلم عقل جميل الذي يقدم شخصيات واحداثًا لا وجود لها إلا في ذهن بطل الفيلم جون ناسن عالم الرياضيات والمصاب بالفصام، ولكنه يقدمها بطريقة موضوعية، وحتي فيلم أحمد حلمي (أسف علي الإزعاج) الذي كتبه أيمن بهجت قمر استخدم نفس التكنيك بنجاح فيلم سكورسيزي يسير خطوة أعمق حيث لا نعيش فقط محنة بطله العقلية، ولكننا نستقبل تساؤلاته بحيث يصبح لغز اكتشاف مرضه هو ابسط الألغاز لأن اللغز الأهم هو الإنسان نفسه الذي يبدو العالم بداخله أكثر تعقيداً من العالم الخارجي، فكرة العنف أيضًا محورية تمامًا سواء في أعمال سكورسيزي السابقة مثل سائق التاكسي أو جزيرة شاتر، هل يمكن أن نحلم بإنسان أقل عنفًا أم أنه لا أمل علي الإطلاق لأن العنف جزء من الطبيعة الإنسانية؟ الفيلم - علي الأرجح - يتبني المعني الثاني الذي يرد كجزء من الحوار علي لسان مأمور المصحة التي يتم فيها احتجاز مرضي عقليين شديدي الخطورة تورطوا في جرائم قتل بشعة. اللغز البوليسي الذي ينسجه السيناريو هو تقديم بطله رجل البوليس تيدي دانيالز (ليوناردو دي كابريو) علي أنه شخص يبحث عن الحقيقة أتي إلي جزيرة شاتر في أحد أيام عام 1954 لكي يكتشف سرّ اختفاء مريضة تدعي ريتشل، ويعاونه في ذلك رجل بوليس آخر هو شاك، وتدريجيًا تكتشف أن تيدي لديه مشكلة نفسية بسبب حريق اشتعل في منزله وقتل زوجته، كما أن مشاهد العودة للماضي تتحدث عن دخوله ضمن القوات التي اقتحمت معسكر داخاو النازي الشهير، وهناك شاهد جثث آلاف الأبرياء القتلي المدفونين وسط الطين، وهناك أيضًا شارك في الانتقام من النازيين بقتلهم بقلب بارد، سيسير الفيلم علي خطي الفيلم البوليسي لاكتشاف حقيقة اختفاء ريتشل، ولكن كشف اللغز سيكون عندما تعرف قرب النهاية أن تيدي دانيالز ليس إلا أحد نزلاء المصحة، وأن هذا الاسم مختلق تمامًا، وأن كل ما شاهدناه مجرد مسرحية متقنة صمَّمها الطبيب المخضرم د. كولي (بن كينجسلي) لكي يواجه رجل البوليس السابق حقيقة الجريمة التي ارتكبها قبل أن يعالج في المصحة لمدة عامين. وهكذا تتغير الهويات وزاوية الرؤية إلي درجة الانقلاب: رجل البوليس الباحث عن الحقيقة مثل محققي مكتب التحقيقات الفيدرالي يكتشف أنه هارب من حقيقة أنه هو الذي قتل زوجته بالرصاص بعد أن قتلت هي أطفالها الثلاثة لأنها مضطربة عقليًا، والمريضة ريتشل التي نبحث عن سر اختفائها لا وجود لها في المصحة أصلاً ولكنها تحمل نفس اسم ابنة رجل البوليس المريض عقلياً والمساعد شاك ليس إلا د.شيهان أحد أطباء المستشفي المشاركين في المسرحية لإعادة الرجل إلي الواقع والطبيب د.كولي الذي تطارده الشكوك في أنه المسئول عن اختفاء إحدي مريضاته ما هو إلا رجل يساعد مرضاه علي الشفاء. ينجح السيناريو في اتقان حبكته بدرجة كبيرة باستثناء ملاحظة واحدة مهمة جدا هي عدم استكمال ملامح رسم شخصية الزوجة المجنونة دورثي هي في رأيي شخصية أساسيه لأنها أحد أسباب أزمة البطل ولكنها قدمت من السطح وظهرت في كوابيسه لتدعم خط التشويق دون الاستفادة في تعميق شخصيتها وبحث أسباب جنونها هي أيضا بداية الخيط ونهايته جنونها أدي إلي قتل أطفالها الثلاثة مما دفع الزوج إلي قتلها .. ليست ضيفة شرف علي الإطلاق بل هي مركز الثقل الذي يزن الكفة ويعمق فكرة الفيلم الأساسية لا يمكن أبداً أن تتصور أنها قاتلة.. ولكنها ستكون، الحقيقة أن فكرة المسرحية التي قام بها أطباء المستشفي لإجبار رجل البوليس المريض علي مواجهة واقعة تقربنا كما قلت من عالم بيرانديللو الذي يتلاعب في بعض مسرحياته بالخيال والواقع والعقل والجنون علي نحو مدهش ومؤثر. علي صعيد الحبكة البوليسية أيضا قدمت مفاتيح للبحث مثل الورقة التي كتب عليها رقم أريت ورقم 67 وهو نفس رقم المريض الذي سنكتشف لاحقاً أن اسمه الأصلي اندروليديس وهو نفس الاسم الذي اخترعه للرجل الذي اتهمه بحرق منزله كل مشهد تمت كتابته بعناية ليقود إلي المشهد الذي يليه ثم تفصل بين مشاهد الخط البوليسي مشاهد كابوسية تظهر فيها الزوجة دورثي والابنة ريتشل ومشاهد أخري لمعسكر واخاو سواء بصور الضحايا، أو بلقطات الانتقام من حرس المعسكر بقتلهم بعد أسرهم، وحتي داخل الأحداث تتناثر جمل حوارية عن القنبلة الهيدروجينية وعن فكرة العنف وعن لجنة مقاومة النشاط الشيوعي، وعن تجارب تحاول إجراء عمليات في فخ المرضي لكي يتم ترويض جنونهم، وفي حين تنجح التجربة جزئياً في إعادة رجل البوليس المريض إلي واقعه المؤلم، فإنه يرتد من جديد في المشهد الأخير ويتساءل: أيهما أفضل؟ ان تعيش وحشاً أم أن تموت كرجل صالح؟!، هل من الأفضل أن يعود هذا المسكين إلي الواقع كل ما حدث من كل الزاويا: هل من الأفضل أن يعود هذا المسكين إلي الواقع بدعوي العلاج والشفاء أم أن يظل في عالم قام بصنعه في خياله؟ أيهما أفضل عقله أم جنونه؟ العقل يجعله وحشاً قتل أولاده والجنون يجعله باحثاً عن الحقيقة! ماالفرق بين الجرائم التي ارتكبها هؤلاء المجانين والجرائم التي ارتكبها النازيون؟ هناك احتمال آخر مفتوح هو أن يخضع المريض لجراحة في المخ لا نعرف نتائجها. الفنار الذي تقف عنده الكاميرا في آخر مشهد ربما يحمل هذا الهدف، ولكن المؤكد أن العنف جزء من حياتنا، ويبدو أنه لا حل سوي البتر أو الجراحة! نجح سكورسيزي كالمعتاد في إدارة ممثليه، دي كابريو الذي انتقل بسلاسة بين لحظات العقل الجديرة بمحقق محترف ولحظات الجنون الجديرة بأب فقد أطفاله، بن كينجسلي بأدائه الرصين وبنظراته الغامضة التي لن نفك شرفتها إلا في النهاية، وسكورسيزي نجح أيضاً كالمعتاد في خلق الجو وفي إبراز أهمية المكان ودوره، ربما كانت مشاهد الكوابيس تحتمل خيالاً أكثر وجموحاً أكبر في التعبير مما يزيد من الغموض والتشويق، ولكن المخرج الكبير كان واعياً طوال الوقت أن كشف لغز فيلمه سيدخل المتفرج إلي لغز أكبر هو الإنسان الذي لا نعرف عنه إلا أقل القليل!