فقد العالم العربي والإسلامي بصفة عامة، والمصري بمسلميه ومسيحييه بصفة خاصة، عالما جليلا، ونموذجا فريدا للتواضع والسماحة ونكران الذات.. فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، الذي رحل عن عالمنا في صمت وهدوء، مثلما كانت حياته دائما يعتريها الصمت والهدوء. كان بحق إمامنا الجليل سواء كنا مسلمين أو مسيحيين، فقد كان صوت الإسلام الحقيقي البعيد عن التشدد والانغلاق.. كانت كلماته وأفعاله تجد طريقها إلي قلوب وعقول كل من يستمع إليه، بغض النظر عن اختلاف البعض معه في الرأي أحيانا. كان خبر رحيله صدمة لكل من عرفوه، وبخاصة عن قرب، وكنت واحدا منهم، فبحكم طبيعة عملي اقتربت من فضيلته منذ أكثر من سبعة عشر عاما مضت من الزمان، حينما كان مفتيا للديار المصرية، وفي تلك الفترة من الزمن كانت هناك بعض الحملات التي تحاول تشويه صورة الإسلام في أمريكا، وتصفه بالتشدد ورفض الآخر، وذلك في أعقاب بعض الأحداث التي جرت في مدينة نيويورك عام 1993، واتهم فيها الشيخ عمر عبدالرحمن، الذي كان أحد المتهمين في قضية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، وحكم عليه بالبراءة، وخرج من المعتقل في أواخر عام 1984، ليسافر بعدها إلي أمريكا، ويقيم بولاية نيوجيرسي.. أيضا كانت قضية الكاتب البريطاني، الهندي الأصل، سلمان رشدي مؤلف رواية آيات شيطانية التي صدرت عام 1988، وأحدثت ردود فعل معادية لها في العالم الإسلامي، نتيجة تطاولها علي شخص الرسول، التي كان من نتيجتها أن أصدر الزعيم الإيراني آية الله الخوميني في فبراير 1989 فتوي بإهدار دمه، التي اختفي علي أثرها سلمان رشدي حتي سقطت الفتوي. كل ذلك أحدث ردود فعل متباينة في الغرب ضد الإسلام، لا سيما داخل المجتمع الأمريكي الذي لا يعرف إلا القليل عن الإسلام، ويتهمه بالتشدد ورفض الآخر. ومع بدايات عام 1994، فكر الراحل الدكتور القس صموئيل حبيب بالاتفاق مع الكنيسة المشيخية بأمريكا التي تتبعها عقائديا الكنسية الإنجيلية في مصر، في دعوة فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي لزيارة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ونقل الصورة الحقيقية للإسلام إلي المجتمع الأمريكي بجميع فئاته وطوائفه. وبالفعل بدأ الإعداد لهذه الرحلة، التي بدأت في الثاني من يناير 1995، وضمت إلي جانب فضيلة الشيخ طنطاوي والدكتور صموئيل حبيب، الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ رجب البنا، وكاتب هذه السطور، وانضم إليهم في أمريكا منسق الرحلة الدكتور القس فيكتور مكاري وهو أمريكي من أصل مصري، وأحد قيادات الكنيسة هناك. كان إمامنا الراحل يعرف أنه سيواجه حملة ضد الإسلام والمسلمين وجها لوجه، وأن هناك أصواتًا سوف ترتفع تحت ستار أن المجتمع الأمريكي مجتمع مفتوح، يحق لكل إنسان أن يقول ما يشاء دون حدود أو قيود.. لكنه كان واثقا أنه سيحقق الهدف من الرحلة، وهو إظهار سماحة الإسلام، وتعريف المجتمع الأمريكي بحقيقته، وأن الإسلام لا يمكن أن يتم اختزاله في عمر عبدالرحمن أو سلمان رشدي.. وبالفعل بدأت الرحلة بمباركة القيادة السياسية، ودعم وزارة الخارجية والسفارة المصرية في واشنطن، وكان علي رأسها ذلك الوقت السفير أحمد ماهر الذي أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد. لقد كان رائعا أن يتحدث مفتي الجمهورية، ورئيس الطائفة الإنجيلية معا في داخل الكنائس، المساجد، وكليات اللاهوت، والمراكز الإسلامية.. أيضا داخل مقر الكونجرس الأمريكي، وفي البيت الأبيض مع نائب الرئيس في ذلك الوقت آل جور.. مع جميع وسائل الإعلام وممثلي الصحافة العالمية من خلال العديد من المؤتمرات الصحفية.. داخل الجامعات، من خلال مراسم منحهما درجة الدكتوراة الفخرية في صنع السلام من جامعة ويستمنستر بولاية بنسلفانيا.. في لقاءاتهما مع الجاليات العربية والإسلامية.. واجها معا بكل شجاعة وإيمان مشترك -كل من كان يحاول النيل من الإسلام. نجحت الرحلة نجاحا غير مسبوق، تحدث عنها معظم وسائل الإعلام العالمية، عرف الكثيرون حقيقة الإسلام من خلال هذا الرجل المتواضع، الذي لم يكل أو يمل رغم المشاق التي تكبدناها جميعا من سفر ومقابلات كانت تستغرق أكثر من ثماني عشرة ساعة يوميا. في هذه الرحلة عرفت فضيلة الإمام الأكبر علي طبيعته، التي لم تتغير مع الزمان أو المكان، تعرفت منه علي شيم العلماء وتواضعهم، عايشت سماحته وهو يواجه كل من يحاول أن يلتقط هفوة تصدر عنه.. بحق استطاع الدكتور طنطاوي أن يجذب إليه كل من يستمع إلي كلماته.. ومنذ ذلك التاريخ، وحتي فاضت روحه الطاهرة إلي بارئها كنت كثيرا ما أتردد علي فضيلته في مناسبات عديدة، أو بصحبة ضيوف أجانب يحرصون علي مقابلته، وكان آخرها قبل وفاته بأقل من أسبوع بصحبة وفد تنزاني. رحم الله إمامنا الأكبر.