لتوفيق الحكيم مسرحية بديعة تصلح لأن تكون منطلقاً لتفسير كثير من الأوضاع التي نمر بها، وكثير من المواقف التي لا نقدر علي تفسيرها بشكل عقلاني.. وتصلح في الوقت ذاته لفهم نوع من التصرفات الجماعية التي تقوم بها بعض فئات المجتمع في غياب تام من المنطق أو العقل.. وهذه المسرحية عنوانها "نهر الجنون". ووفق أحداث المسرحية، فإن طاعوناً قد تفشي في نهر يمر بإحدي المدن.. فكان لا يشرب من هذا النهر شخص إلا أصيب بالجنون.. فشرب منه بعض الناس في البلدة فأصيبوا بالجنون.. وكان هؤلاء القلة يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء... ولجأ الناس إلي الحكيم.. الذي بذل جهده لإنقاذ البلدة.. غير أنه استيقظ يوماً فإذا بزوجته قد جنت، وصارت تجتمع مع جماعة المجانين، وتشتكي جنون زوجها... صاح الحكيم ونادي علي تلاميذه، غير أن الخادم أخبره أن جميع التلاميذ قد جنوا!! فأشار إليه أن يدعو الطبيب، فأشار الخادم إلي أن الطبيب قد جن أيضاً.. وهنا تنبه الحكيم إلي حجم المصيبة وقال: لم يبق سواي أنا والخادم.. يا الله ماذا افعل أنا في مدينة المجانين؟ غير أن هذه ليست هي المصيبة الحقيقية، فقد أشار الخادم إلي مصيبة أكبر.. إذ نبَّه سيده إلي أن المجانين "يا سيدي يقولون إنهم شربوا من النهر لكي يشفوا من طاعون الجنون.. ولم يبق سواي أنا وأنت لم نشرب من هذا الدواء، إذن فنحن المجانين يا سيدي.. هم الأغلبية الآن.. وهم من يحددون معيار الجنون والتعقل". هنا كان علي الحكيم أن يحدد المصير، إما أن يواجه الجنون الذي تفشي في المدينة، وأن يصر علي استكمال رسالته في مواجهة هذا الطاعون، وفي محاربة هذا الخطر، أو أن يخضع للاتجاه السائد ، ولرأي المجانين .. كان علي الحكيم أن يرسم خارطة الطريق للمدينة، وأن يحدد توجهاتها المستقبلية وصولاً بها إلي شاطيء الأمان، وإلي حد التعقل.. غير أن الحكيم انحاز إلي الطريق السهل.. انحاز إلي أن يكون مع الجميع، حتي لو كان في ذلك هلاك له ودمار لأهل المدينة. لقد صاح الحكيم علي خادمه: إلي بكأس من هذا النهر فما فائدة العقل في مملكة المجانين؟!!! ما أسهل أن يتبع المفكر أو العاقل الطريق السهل إرضاء للجماعة وتمشياً مع الموجة السائدة، وما أصعب أن يسبح العقلاء ضد التيار، وضد الاتجاه السائد.. فهذه القدرة لا يلَّقاها إلا الصابرون، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم!! عزيزي القارئ.. ماذا كنت ستفعل، لو كنت في موقف الحكيم: هل تشرب من الكأس كما شرب الآخرون حتي لو كان فيه هلاك لهم جميعاً.. أم تقاوم لتنقذ نفسك وتنقذ الآخرين؟ السؤال مفتوح أبداً.