لم يقف الأمر عند حد الأصوات العاقلة والحكيمة وكتابات عدد كبير من الصحفيين الكبار، وجهد المجلس الأعلي للصحافة.. ونقابة الصحفيين.. كل هذه الأصوات والجهود نادت وتنادي بضبط ايقاع صور التعبير والإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي أو الالكتروني.. التزاما بالحرية المسئولة.. وهي الحرية التي أعلن عنها وأكدها الدستور المصري صراحة وبنصوص عديدة سواء في باب الحقوق والحريات.. أو باب سلطة الصحافة.. أو تشريعات نقابة الصحفيين، أو قانون تنظيم الصحافة.. وغيرها من مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. وما أكدته أحكام القضاء في كل مرة علي تعزيز حق التعبير والرأي والنقد الموضوعي البناء، مهما كانت العبارات قاسية.. طالما أن ذلك كله من أجل تحقيق المصالح القومية في البلاد وسلامة النقد والبناء الوطني ومراعاة التقاليد الأصيلة وأخلاقيات وقيم الشعب المصري. ولم يقف الأمر عند حد هذه الأصوات الحكيمة التي كان منها كتاب كبار.. والذين تعرضوا للاتهام والنقد بأنهم ضد حرية الصحافة والإعلام، علي حين أن الدفاع عن الحرية المسئولة هو دفاع عن الحرية كلها.. وإلا انقلبت المسألة إلي فوضي.. وصارت ضد الحرية ذاتها. ومع ذلك زادت حدة التجاوز واتسعت دائرة التشهير والإثارة والحرب الكلامية التي امتدت إلي امتهان العدالة.. والاعتداء علي الخصوصية وحقوق الآخرين.. والاتهامات بغير دليل وخدش الحياء.. وحق المشاهد والقارئ والرأي العام. وإزاء هذا التطور الحادث إلي الخلف وتصاعد موجات التجاوز، لم تحقق تلك الأصوات الحكيمة أو ورش العمل أو الدراسات العليا بالجامعات في أخلاقيات الإعلام ومبادئ الالتزام بالنقد الموضوعي.. البناء.. والمحافظة علي قيم المجتمع ومقوماته الخلقية والاجتماعية، والحقوق والحريات واحترام الحياة الخاصة للناس، لم يحقق ذلك كله نجاحا كبيرا ضد التجاوز أو الصخب الإعلامي.. لهذا سجلت بعض الأحكام القضائية في مدوناتها إشارة إلي ذلك التجاوز، وناشدت ضمائر أصحاب الأقلام والرأي والفكر، كما طالب نقابة الصحفيين والمجلس الأعلي للصحافة.. والمعنيين مواجهة هذا التجاوز المتزايد. ولم يقف الأمر عند حد تلك الأحكام التي دونت صور التجاوز ووجهت النقد وناشدت الوقوف عند حد الحرية المسئولة والتصحيح.. لكنه ما لبثت أن تصدت بعض الأحكام لصور التجاوز.. فأصدرت أحكامها بالغاء التراخيص للصحف مثل النبأ.. ومجلة إبداع.. حتي ولو كانت تلك الأحكام قد تم وقف تنفيذها بصفة مستعجلة أمام محكمة الطعن، لكنها كانت رسالة تحذير وغضب. كما لم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل طالعتنا قرارات مجلس القضاء الأعلي.. تشدد علي مهابة وحسن سير العدالة.. عند المعالجة الإعلامية للقضايا ونبهت الإعلام بصوره المختلفة أن يبتعد عن امتهان العدالة بالنشر أو التعليق علي الأحكام علي الشاشة أو في الصحف وبما يؤثر في العدالة أو الشهود، وتحذر من التجاوز. ولهذا أصدرت أوامر قضائية بحظر النشر في مواجهة بعض صور التجاوز التي وقعت أثناء نظر بعض القضايا المهمة، وحرمت القارئ أو المشاهد من حق المعرفة، لأن حسن سير العدالة أولي بالرعاية. لكن الرسالة المهمة والجديدة، تلك التي وجهتها محكمة القضاء الإداري، في مواجهة ذلك التطور الهائل بالحكم الصادر يوم السبت قبل الماضي، من دائرة الاستثمار، بوقف بث ثلاثة برامج علي إحدي القنوات الخاصة، بسبب التجاوز الذي سطرته المحكمة في حكمها وقد أبانت عن الحرية الإعلامية المسئولة، في صفحات بلغت 43 صفحة كاملة، وبعيدا عن أشخاص الخصوم في الدعوي أو التعليق علي الأحكام، خاصة وأن الحكم مطعون عليه، لكن الملفت للنظر وبأهمية بالغة تلك الأسباب التي سطرتها المحكمة الموقرة عن تطور الحرية الإعلامية وأنها لم تعد تستند إلي نظرية السلطة، كما لم يعد يصلح لها نظرية الحرية المطلقة، وإنما تقع حدودها في مجال المسئولية الاجتماعية.. كل ذلك في مجال الحرية الإعلامية وتشريعات اتحاد الإذاعة والتليفزيون.. والمنطقة الحرة الإعلامية ومواثيق الشرف الإعلامي.. ومبادئ تنظيم البث الصادرة عن مجلس الوزراء المصري.. كل ذلك من شأنه أن يواجه أي خروج علي القيم والتقاليد وحق المشاهدة، ويوجب علي الجهات المعنية أن تمارس اختصاصاتها في مواجهة أي تجاوز، بل أن أمتناعها عن النهوض بمسئوليتها، يعتبر تقاعسا بما يتعين معه مواجهته ولهذا قضي الحكم ولأول مرة برفض طلب إلغاء الترخيص كلية للقناة، انحيازا لحق المشاهد في المعرفة لكنه قضي بوقف البث للبرامج الثلاثة التي خرجت علي الحرية المسئولة وأشارت إليها بمدونات ومنطوق حكمها. ويعد هذا الحكم سابقة مهمة تمثل رسالة من القضاء إلي الإعلام بجميع صوره المسموعة والمقروءة والمشاهدة انتصارا لمبادئ القيم الأخلاقية التي يقوم عليها الإعلام وانحيازاً للحرية المسئولة وسجلت في رسائلها أن مسئولية الجهات المعنية جد خطير وذلك ضمانا لحرية الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد وحماية القيم والأسرة المصرية ومنعا من انتشار العبث والإساءة إلي سمعة الناس واتهامهم وبما يهدم الديمقراطية والتقدم ويهدد السلام والأمن الاجتماعي ويضرب الحريات العامة والشرعية في مقتل عندما تخرج صور الإعلام عن رسالتها الاجتماعية والتحول بها إلي الأغراض الشخصية أو التجاوز والانتقام وخدش حياء الناس وإجمالاً عند التجاوز عن تلك الأغراض التي استهدفتها الحرية الإعلامية وتعزيز الحريات والمواطنة وترسيخ حق النقد والتعبير وهو الحق في الحياة. إنها حقا رسالة من القضاء المصري الشامخ إلي الإعلام!! ومازالت القضية قائمة ومازالت رسائل القضاء تتوالي حتي تتمكن وسائل الإعلام بجميع صورها من تحقيق رسالتها من النقد البناء وتحقيق الديمقراطية وكشف العوار والفساد وأن تظهر نفسها بالرقابة الذاتية أحياناً أو برسالة القضاء أحيانا أخري من أجل حماية الناس وقيم المجتمع وتحقيق التقدم!!