خمس سنوات مرت وما زلت أشعر أنني حي بك وبقلوب المحبين التي تحولت شرفة من نور أطل بها كل يوم علي بلد أحببته حتي الاستشهاد. اشفق عليك يا ولدي، يا حبيبي، يا دولة الرئيس، فقد أثقلت عليك بعباءتي لكن كتفيك لم تنحيا. حملتك أوزان وطن وأوزار وطن وصواعق وطن وعواصف وطن وأزمات وطن لكن ظهرك لم ينكسر والضربات التي لا تكسر ظهرك تقويك. وأشفق عليك أكثر لأن الخلاص مني جسديا كان بداية المرحلة وليس نهاية لها. كان اغتيالي حربا حقيقية علي اجماع شعبي يزداد تماسكا في الوقت الذي يزداد التحالف السياسي تفرقا. كنت أتغاضي عن الكثير من الإساءات، وأستهزئ بالكثير من المواقف الانقسامية التي تهبط بالمظلات او تدخل عن طريق الخط العسكري، وأرفض الدخول في مهاترات سياسية تنعكس سلبا علي الاجماع الشعبي. عرفت تماما ماذا يريدون وعرفوا تماما ماذا أريد. حاولوا اغتيالي مائة مرة قبل ذلك عن طريق اغتيال علاقتي بالناس عبر محاولات جري لمواقف تصعيدية تحرك المناصرين وتخرج غرائزهم إلي الشارع... وانت تعلم كم مرة رفضت هذه العروض وكم ليلة بت فيها علي وعد باغتيال. تخلصوا مني جسديا والتف الناس اكثر حول مشروع الوحدة والبناء ونقل لبنان من المزرعة إلي الدولة... التفوا حولك وحول حلفائك تحت شعارات السيادة والاستقلال. كانت شاحنة السان جورج بداية لا بد من استكمالها كي يتحقق هدف التفجير. هذه المرة الاوامر معلنة ومباشرة "يللا شباب اسقطوا الغالبية والحكومة وغيروا الأوضاع بقوة السلاح في الشارع واعيدوا الأمور إلي ثمانينيات القرن الماضي، والأهم الأهم الأهم ان تعصف الغرائز المذهبية بالحالة السياسية وينتهي الاجماع الشعبي ويتم ترسيم حدود الحرب الاهلية"... وفي لبنان محترفون حقيقيون يؤدون الادوار بطريقة افضل مما يريدها المخرج ويعزفون سمفونية الفتنة بنوتة مطورة لا يتوقعها حتي المايسترو. أشفق عليك وأشفق علي لبنان، انما في الوقت نفسه لا يمكنني إلا أن اعتز بما تقوم به من خطوات لإعادة البلد الي مسيرة التنمية والاعمار والوحدة، وافتخر بأنك واجهت ما لم يواجهه احد وفي اقسي الظروف واصعبها محافظا علي نهج والدك الوطني العربي. لم يدفعك الالتفاف الشعبي غير المسبوق إلي مواقف الآخرين بل تسلحت به لدفع الآخرين إلي موقفك. موقف والدك. رسمت لنفسك حدودا. حدود والدك، واكتشفت رغم حداثة التجربة والعمر سر الطريق الي لبنان الدولة، وهو السر الذي دفعهم الي محاولة كتمانه بطنين اثنين من المتفجرات لشخص واحد. شخص والدك. مشروع الانماء والاعمار لا يكتمل من دون سيادة واستقلال وحرية واجماع شعبي ينقل القضايا من اطارها الانقسامي المذهبي الي الإطار الوطني. السر في هذه المعادلة. وبقدر اعتزازي الكبير بالتزامك العقلانية والرقي وثوابت البيت الذي نشأت فيه بقدر خوفي عليك خصوصا في الذكري التي حفرتها "الايادي السود الحقيقية" علي وجه لبنان. ستعايش يا ولدي، يا حبيبي، يا دولة الرئيس، امورا كثيرة مستغربة. ستجد بحرا من محبة الناس ومحبة الحلفاء. ستجد من حلفائك من ينعطف يمينا أو يسارا من دون ان يعطي أي اشارة، وستجد من يعطي اشارة ثم يطلق النار يمينا أن انعطف يسارا أو يطلق النار يسارا أن انعطف يمينا. ستجد من يقول لك في المجالس شيئا وتسمعه أمام الميكروفونات يقول عكسه. ومن يعد ويخلف. ومن يدخل معك في تسويات ظاهرها وطني ومضمونها مذهبي، ومن يزين لك بأن القوة الحقيقية تكمن في الاتفاق الثنائي أو الثلاثي بين الطوائف. ومن يوهمك بأنه مالك لقراره وهو في الحقيقة أداة أو أداة عند الأداة. ومن يقسم بأغلظ الأيامين بأنه معك في السراء والضراء وقلبه معك لكن سيفه عليك. ومن يكرهك لأنه صادق في كرهه لك وكره مشروعك، ومن يكرهك لأنك تكره مشروعه، ومن يكرهك لأن الاوامر وصلت اليه بأن يكرهك... هذا لبنان يا سعد. عقود من التفخيخ لم تستثن لحظة طبقته السياسية وملاحقها المذهبية، وما عليك سوي ابداء حسن النية لتجنب خيبات الامل كما كنت افعل، وما عليك سوي التعامل مع ايجابيات كل طرف وترك سلبياته كما كنت افعل، وما عليك سوي الالتزام بمشروع قيام الدولة ووحدة ابنائها كما سعيت انا دائما واستشهدت من اجله. أطلت عليك يا ولدي، لكني مشتاق اليك وإلي نازك وإلي اخوتك جميعا وإلي احفادي وإلي اخوتي وابنائهم واحفادهم. مشتاق إلي لبنان وإلي اللبنانيين، مشتاق إلي رؤية الاعمار يتعمم من قلب بيروت إلي اطرافها فكل لبنان. مشتاق إلي متابعة تفاصيل الطلاب الذين تخصصوا في ارقي المجالات العلمية، ومشتاق إلي متابعة تفاصيل الخدمات الانسانية. الله يخليك يا سعد بصحتك... إلا توزيع المواد الغذائية علي المحتاجين خصوصا ان الشتاء كان قارسا. هل تتذكر هجوم سلطة الوصاية علي "اوكار توزيع الزيت الارهابية" قبل يومين من اغتيالي؟ سامحني اذا أطلت، لكن لا بد من طلب وأنت لم ترد لي طلبا: لا تسامح من قتلني ولا تنس. تصرف بحكم مسئولياتك كرئيس وزراء لكل لبنان انما لا تسامح ولا تنس. اعمل علي تمتين علاقات لبنان مع كل الدول العربية، الشقيقة منها قبل الصديقة، انما لا تسامح ولا تنس. انفتح علي كل الدول والجهات والتيارات والاحزاب والهيئات والمؤسسات داخليا وخارجيا واجعل الجميع يقتنعون بأن المحكمة والقضاء والعدالة مصلحة لهم وان الحقيقة لا تتعارض، ولا يجب ان تتعارض، مع مشاريعهم السياسية وحتي الخاصة منها... وإذا لم تنجح في ذلك فحسبي انك لم تسامح ولم تنس. وتذكر، فقط تذكر، أن احدا لم يسامح ولم يتسامح أكثر مني، وان احدا لم ينس أو يتناس أكثر مني... وأن ذلك كله لم يزد "الأيادي السود" الحقيقية إلا إمعانا في القتل والاجرام. أبق محبتك للبنان "زي ما هيي"، وابق علي عزيمتك "زي ما هيي" وابق علاقاتك بالناس "زي ما هيي". ما حدا اكبر من البلد يا بابا، يا حبيب البابا، يا حبيب لبنان، يا دولة الرئيس، يا ابن الرفيق، يا ابن الشهيد... والدك رفيق بهاء الدين الحريري. نائب رئيس تحرير جريدة "الرأي" الكويتية