بعد أكثر من ربع قرن في السجون العنصرية، قررت حكومة جنوب أفريقيا الإفراج عن المناضل الصلب الفذ نيلسون مانديلا، وكان يوم عناقه للحرية، العاشر من فبراير سنة 1990، عيدا للإنسانية ولكل القيم النبيلة التي تنتصر لذلك الكائن العظيم الجليل المسمي بالإنسان. نيلسون مانديلا زعيم حقيقي، آمن بالشعب والقضية، والحق في الحرية والتخلص من النظام البغيض الذي يميز بين البشر من منطلق لون البشرة. زعامة جديرة بالتأمل والاحترام، فهي من ذلك الطراز الإنساني الاستثنائي الذي لا يعرف الجمود والتعصب، ولا يعترف بالتزمت وضيق الأفق. يدفع الثمن موقنا أن التضحية الجسيمة ضريبة منطقية للمستقبل الأجمل والأفقي، ويتعامل مع الواقع بجدية تستهدف التغيير والإصلاح، ولا تحفل بالشعارات الملونة البراقة. عشرون عامًا تمر اليوم علي الميلاد الثاني لنيلسون مانديلا، والانتصار الحاسم لقيمه ومبادئه، وما أشد احتياجنا الآن إلي دراسة تجربته واستيعاب دروسها. في منطقتنا العربية، وفي العالم الإسلامي، زعماء ورقيون يعيشون في التصور، ولا يعرفون السجون، ويناضلون بالخطب المنبرية دون معاناة ومشقة، بل إنهم يتاجرون بالألم الذي يكابده العاديون من أبناء الشعب الذي يدعون قيادته. متي يشعر هؤلاء الأدعياء بالخجل، ومتي يؤنبهم الضمير الغائب فيراجعون حساباتهم القاصرة ويتراجعون عن الولاء للقوي التي تحركهم؟، ومتي يتعلمون من مانديلا أن المناضل بحق هو من يجيد قراءة الواقع، ويتقن البحث عن علاج عملي للمشاكل التي يواجهها، متخلصا من أحلام اليقظة الكاذبة؟ عشرون عامًا بعد الإفراج عن المناضل الأسود العملاق، ومازال نيلسون مانديلا شابا جميلا مسكونا بالحيوية والتألق، يحتذيه العالم المتطلع إلي خريطة جديدة عادلة، تخلو من القهر والقمع والعنصرية البغيضة، وتنجو من الكوارث التي يصنعها التجار مدمنو الكذب والخديعة. جريمة شنعاء أن يكون اللون هو المقياس للتمييز بين البشر، وجريمة مماثلة أن يقنع أدعياء الزعامة بالخطب والشعارات.