نشرت جريدة الحياة اللبنانية في عددها رقم 17093 الخميس 21 يناير 2001 خبرًا تحت عنوان المعهد الكاثوليكي في باريس يستعد لتخريج 30 إمامًا بينهم نساء، وبقراءة المقال اكتشفت أن هذه هي الدفعة الثالثة من الخريجين وعددهم 30 طالبًا من جنسيات مختلفة تركية وعراقية وشمال أفريقية ومن بينهم 4 نساء، ومدة الدراسة 6 أشهر من يناير إلي يونيو والهدف من هذه الدراسة إعداد هؤلاء الأئمة ليكونوا علي انسجام مع بيئتهم الفرنسية فيجمعوا بين المعرفة الدينية والإلمام بالثقافة العامة في فرنسا وتاريخ قيمها الجمهورية ومؤسساتها المختلفة وقوانينها، ولقد أعجبتني الفكرة تمامًا وتمنيت أن تطبق في مصر بحيث يخضع خريجو الأزهر والمعاهد اللاهوتية معًا لدراسة وتدريب لمدة عام فيه، يدركون تاريخ مصر وهويتها ويلمون ببعض المعارف السياسية والثقافية العامة ويحسون بمدي المسئولية الموضوعة علي كاهلهم لحفظ هذا البلد آمنًا من كل فتنة وانقسام، وتركز مثل هذه الدراسة علي العيش المشترك ومفهوم المواطنة فكيف يقوم أمثال هؤلاء بعملية تنوير لمستمعيهم وقبول الآخر المختلف وتكوين صداقات بينهم وبين زملاء الدراسة المختلفين عنهم، ومن الأفضل أن تكون هذه الدراسة في مكان منفصل وبعيد عن المعاهد الأزهرية واللاهوتية، فيقيمون معًا علي مدي الأربع وعشرين ساعة لسنة دراسية، وهذه العشرة الطويلة سوف تجعل هؤلاء يدركون أن الله فوق الأزمان وأن هدف الأديان النهائي هو الإنسان، وأن الدين عندما يفرق بين البشر لا يكون دينًا حقيقيا، بل تفسيرًا أو فهما خاطئا له، ومن هذا المنطلق نضمن أنه في العشرين عامًا المقبلة يتخرج أئمة وقساوسة قادرون علي الحديث بلغة العصر، ولهم القدرة علي تقديم التفسير الصحيح للإيمان والذي يقنع الآخر المختلف في الوعي الجمعي للشعب المصري، وبهذا نتجنب الفتن الطائفية والتفسيرات الخاطئة للنصوص المقدسة والتعصب المقيت، ومن العجيب في التجربة الفرنسية أن الجامعات العلمانية رفضت أن تتولي مسئولية هذه الدراسة، وقد بررت جامعة السوربون العريقة رفضها بالقول أنها مؤسسة علمانية لا يمكن أن تكون معنية بإعداد وتخريج رجال دين، وأتت المفاجأة من المعهد الكاثوليكي وهو جامعة خاصة والذي وافق علي رعاية عملية اعداد الأئمة الراغبين والمقتنعين بأن لا مجال للفصل بين قيمهم الدينية وقيم المجتمع الغربي، ولقد أثارت موافقة المعهد الكاثوليكي نوعًا من الصدمة العامة في عدة أوساط، وهناك من رفض التبرع للمعهد أو بالأحري أوقف تبرعاته للمعهد، لأن المعهد منوط بتخريج كهنة وليس أئمة مما أدي إلي خسائر مادية للمعهد، ولقد قامت عدة صحف بالتشهير برئيس المعهد الكاهن أوليفيه بوبينو، ومن الناحية الأخري اعترضت المنظمات والهيئات الإسلامية علي تولي معهد مسيحي إعداد أئمة من المسلمين بدلاً من الجامعات الرسمية، لكن بعد فترة واختبار غيروا رأيهم عندما رأوا أن الإعداد كان متميزًا ومحايدًا، ونتيجة لكل ذلك تقوم وزارة الاندماج والهجرة والهوية الوطنية بتقديم 70٪ من مصاريف الدراسة، والتي تبلغ 3 آلاف يورو للفرد ويتكفل المعهد بالباقي من التكاليف، أما المنهاج الدراسي فهو يرتكز علي أربعة محاور أولها الثقافة العامة ثم المحور القانوني، وثالثًا الثقافة الدينية وأخيرًا محور التدخل الثقافي، ويحتوي كل منها علي عدة مواضيع هامة، وفي النهاية يقوم الطلاب بتقديم بحث يختار موضوعه كل منهم، ويتم نشر أفضل الأبحاث علي أوسع نطاق والذي يقوم بترشيح الطلاب للدراسة المؤسسات الإسلامية التركية والمغربية ومسجد باريس كذلك يمكن قبول طلاب بالإرادة المنفردة والشرط الوحيد هو أن يكون الطالب حائز شهادة بكالوريا زائد سنة جامعية، وهكذا نري كيف تكون الافكار المبدعة قادرة علي التصدي لعوامل العنف وصدام الحضارات من خلال خطاب ديني مستنير، وأري أن مصر أكثر حاجة لمثل هذه الدراسة، ولاشك أن الجامعات المصرية سوف ترحب بإقامة مثل هذه الدراسات لخريجي، الأزهر والكنيسة خاصة أن هناك علاقات متميزة وحوارًا مستمرًا بين الأزهر والكنيسة وأن الظروف التي تمر بها بلادنا تحتاج لمثل هذه الأفكار الخلاقة حيث أكثر ما نعاني منه في مصر هو الخطاب الديني المنغلق، وإذ أضع هذا الفكر أمام وزير الأوقاف المستنير مع شيخ الأزهر وقداسة البابا شنودة والدكتورالقس صفوت البياضي متمنيا أن تخرج للنور وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وأننا نعلم جميعًا أن الخطاب الديني علي الجانبين قادر علي تحريك الجماهير سلبًا وإيجابًا.