يمثل العنف ظاهرة عالمية لا تقتصر علي دولة بعينها أو إقليم أو بقعة جغرافية دون أخري، وفضلا عن ذلك فإنه لا يمكن الربط بشكل تلقائي بين تواجدها من جانب، ومستوي التقدم السائد من جانب آخر؛ فعلي حين تتعدد صورها في الدول المتقدمة فتسلب الحقوق الفردية، تطل برأسها في الدول النامية لتهدد الاستقرار والسكينة. وقد كان من نتيجة ذلك أن تزايد الاهتمام بها وتعاظم القلق تجاهها، فتعالت الأصوات التي دقت ناقوس الخطر، مطالبة بضرورة التعامل معها بشكل جدي وفعال لما لها من انعكاسات سلبية علي حقوق المواطن واستقرار المجتمع وأمن وسلامة البلاد في آن واحد. وقد شهدت الفترة الماضية اهتماما متزايدا بتصاعد وتيرة العنف في المجتمع المصري، كان من أبرز ملامحه المؤتمرات المتعاقبة التي نظمها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، وتضمين إحدي جلسات المؤتمر الأول لمتابعة إعلان المواطنة، الذي نظمه المجلس القومي لحقوق الإنسان في ديسمبر الماضي، ورقة عمل شرف كاتب هذا المقال بإعدادها، حول الأسباب المجتمعية للعنف وآليات التعامل معها، انطلاقا من حقيقة أن هذه الظاهرة تمثل في جوهرها انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان قد تصل إلي حد المساس بأولي هذه الحقوق، الحق في الحياة، وتمتد إلي غيرها من قبيل الحق في السلامة الجسدية والنفسية والتي تكون موضع تعد أشكال ودرجات متفاوتة من جراء أعمال العنف. وفي ضوء حقيقة أن تفشي أو انتشار العنف يمثل خرقا صريحا للأمن ببعديه المادي والنفسي تبدو للوهلة الأولي أن مسئولية التعامل المباشر مع مظاهره في المجتمع تقع علي عاتق الأجهزة الأمنية، في حين تتحمل السلطة القضائية عبء ردع هذا السلوك من خلال توقيع العقوبات الملائمة علي مرتكبيه فور القبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة، خاصة وأن قضايا العنف، إذا ما أضحت ظاهرة متكررة أو ارتفع مستوي الوحشية فيها أو مست جوهر العادات والمعتقدات المجتمعية، وإذا لم يتم تحديد مرتكبيها والتعامل معهم بشكل سريع تتحول لتصبح قضايا رأي عام قد تسفر عن إشاعة روح الخوف والرعب والهلع بين المواطنين. وعلي غرار الدول الأخري، حدد الدستور المصري مهمة جهاز الشرطة في هذا الخصوص؛ حيث نصت المادة (184) منه علي أنه "هيئة مدنية نظامية، رئيسها الأعلي رئيس الجمهورية، وتؤدي الشرطة واجبها في خدمة الشعب، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وتسهر علي حفظ النظام والأمن العام والآداب، وتتولي ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات، وذلك كله علي الوجه المبين بالقانون". ومن جانبها، حددت المادة الثالثة من قانون الشرطة رقم (109) لسنة 1971 اختصاصات الهيئة علي النحو التالي: "المحافظة علي النظام والأمن العام والآداب، وحماية الأرواح والأعراض والأموال، وعلي الأخص منع الجرائم وضبطها، كما تختص بكفالة الطمأنينة والأمن للمواطنين في جميع المجالات، وبتنفيذ ما تفرضه عليها القوانين واللوائح من واجبات". ومع ذلك، فمن المؤكد أن تحميل الأجهزة الأمنية المسئولية وحدها في هذا الخصوص، كأن العنف هاجس أمني فقط أو في الأول والأصل، يعتبر منافيا للواقع والحقيقة. فمع التسليم بأهمية ومحورية دور المنظومة الأمنية في التعامل بحزم مع "مظاهر" العنف، والسعي الدءوب لوأدها في المهد من خلال بذل قصاري الجهد لتحييد العناصر الخطرة التي تتزايد احتمالات إقدامها علي ممارسة العنف، وإن لم تتمكن من ذلك فإنه يقع علي كاهلها ملاحقة مرتكبي أعمال العنف وإلقاء القبض عليهم في أسرع وقت ممكن، فإن تعدد الأسباب والدوافع التي تفرز هذه الظاهرة وتتطلب "المنهج التكاملي" لفهمها، تمثل حقيقة تنسحب بشكل تلقائي علي وسائل التعامل معها، التي يجب ألا تقتصر علي المستوي الأمني دون غيره من المستويات. وبعبارة أخري، تستلزم مواجهة العنف في المجتمع المصري ذإذا أريد لها أن تكون فعالة وناجعة - وضع إستراتيجية متعددة الأبعاد ومتشابكة الأطراف، تتخطي الجانب الظاهري للعنف والمتمثل في "الأفعال" وتغوص في العمق لتتعامل مع الجذور العميقة التي تساعد علي تضخيم حجم الظاهرة وزيادة نسبة مرتكبيها ومعدلات وقوعها، بشكل يجمع بين أسلوب "المواجهة" الفورية مع مرتكبي العنف، من خلال الأجهزة الأمنية، و"الأسلوب الوقائي العلاجي" الذي يتوجه بالخطاب والفعل إلي الشرائح التي تتزايد بين صفوفها احتمالات تفريخ أجيال جديدة وأدوات مستحدثة للعنف، ومما لا شك فيه أن الأسلوب العلاجي الوقائي يتجاوز من حيث مضمونه ومنهجيته أسلوب المواجهة، بشكل يجعل منه مسئولية وطنية تقع علي كاهل العديد من الأجهزة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية في العديد من الميادين التي تتجاوز حدود واختصاصات وإمكانيات الأجهزة الأمنية، وإن اشتركت معها في التعامل مع نفس الظاهرة المجتمعية. وفي هذا السياق، جاء المؤتمر الذي نظمه هذا الشهر مركز بحوث الشرطة برعاية وزارة الداخلية في خضم الاحتفالات بعيد الشرطة انعكاسا لهذا التوجه، فتحت شعار "معا لمواجهة العنف" تم حشد عدد كبير من المتخصصين وأساتذة الجامعات والمراكز البحثية وممثلين عن الجمعيات الأهلية لتدارس هذه الظاهرة والخروج بتوصيات يتم رفعها إلي مراكز اتخاذ القرار للنظر في كيفية تبنيها في إطار متكامل ومتناغم يسعي لتحقيق الهدف المنشود. وقد جاءت الأحداث المؤسفة التي شهدتها مدينة نجع حمادي في مطلع هذا العام لتبرز أهمية التحرك الملموس والمتكامل لترجمة التحليلات والتوصيات إلي واقع عملي في ضوء التحذيرات المتعاقبة من خطورة هذه الظاهرة واحتمالات تفاقمها وسرعة انتقالها من مستوي إلي آخر وفقا للسياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي تدور فيه وقائعها، وفي هذا الخصوص، فإن أساليب التعامل مع هذه الواقعة وإن عكست إدراكا لضرورة إتباع الأسلوب الوقائي (نشر قيم التسامح وتفعيل دور المؤسسات الدينية)، بالتوازي مع المقترب الأمني (فورية تعقب الجناة وإيقافهم) والقضائي (سرعة المحاكمة وإيقاع الجزاء الرادع)، تظل الحقيقة الرئيسية متمثلة في أهمية رسم خطوط إستراتيجية تتسم بالشمولية والتكامل والاستمرارية تسعي إلي التعامل أساسا مع الجذور الكامنة للظاهرة، دون أن تتوقف علي التعامل مع مظهر من مظاهر التعبير عنها يأخذ شكل واقعة بعينها في مكان محدد. وفي هذا السياق تبرز محورية الدور الذي يمكن أن يلعبه المجلس القومي لحقوق الإنسان، والذي يجب ألا يتوقف فقط علي ما قام به من تحرك سريع تضمن إرسال لبعثة تقصي حقائق لموقع الحدث، بل أن يمتد ليشمل المتابعة الدقيقة لتنفيذ ما تم صياغته من توصيات، ليس فقط في محافظة واحدة، وإنما في جميع ربوع البلاد، من خلال تنسيق وتوجيه جهود جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، الإعلامية والقضائية، التربوية والدينية، بهدف تنقية نسق القيم في المجتمع من الشوائب والنقائص، وفي مقدمتها العنف، التي تمس حقوق الإنسان والمجتمع والدولة.