تتجمع المشاهد شيئا فشيئا لاكمال صورة مختلفة لبيروت تعيدها إلي العهد الذي يتغني به كثيرون اليوم وبينهم من كان طليعيا في "ثورة الارز". عهد احتضان قضايا التحرر العربي والدولي والتضامن مع الممانعين للمشاريع الامبريالية والانخراط في لعبة الانظمة وتأمين ملاجيء للمضطهدين ومنابر تعبئة للمجاهدين وساحات للمقاومين. شيئا فشيئا تستعيد بيروت صورتها التي احترقت... واحرقتها. ترسمها ريشة جديدة بألوان قديمة، فالعروبة هي المستهدفة أولا وأخيرا ولا مجال في خضم هذه التحديات للحديث عن الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان والمشاركة ونتائج الانتخابات. هي ترف يجب أن يشكر اللبنانيون الله لسماح قوي الأمر الواقع بها كنوع من فولكلور يراعي ما أمكن التنويعات السكانية. والوحدة هي المستهدفة ولا بد من حمايتها في اطار تفاهمات بين أطراف مسلحة وأخري "مشلحة"، والمقاومة مستهدفة ولا بد من انتقالها من مرحلة الدفاع الي الهجوم عبر استكمال بناء مشروعها وتحصينه ليكون البديل الوحيد للمشاريع التي ترسم للمنطقة. تعبئة شبه يومية يكاد اللبناني يشعر معها بأنه يرتكب خيانة كبري بتقاعسه عن الانخراط الفوري في مشروع الممانعة والتصدي. تعبئة تذكرنا بالتظاهرات التي اندلعت في ستينيات القرن الماضي لمناصرة تعريب المناهج وتوجيه كتب التاريخ ورفض اللغات الأجنبية في المدارس والجامعات، ثم توالت مستخدمة القضايا المطلبية في استقطاب الشارع وتهيئته لأهداف أخري تجلت لاحقا، ودائما كانت "القضية المركزية" مصدر شحن وإلهام إلي جانب زيادة الأسعار كأن يصدح هتاف "عسكر علي مين عالفلاحين" مصاحبا ب"كيلو الرز بليرة ونص وأربع بيضات بليرة" وينتهي ب"سحقا سحقا بالصباط للي فكو الارتباط" و" فدائيي وحاملين سلاح نرمي سلاحنا مش معقول الحل السلمي مش مقبول"... و"يا عروبة مين حماكي غير البعث الاشتراكي". وكم يشبه تفجير حارة حريك الذي استهدف "حماس" قبل أيام تفجيرات الفاكهاني والجامعة العربية ومخازن الفصائل المختلفة في المخيمات قبل عقود مع فارق المكان وهوية الطرف المسلح بين البيوت السكنية وهوية المحتضن. وكم تشبه الدعوة إلي ندوة مناصرة الطاغية الديكتاتور صدام حسين في بيروت اليوم ندوات مناصرة رموز التخلف والقمع والإجرام برتب "قادة" و"مجاهدين" أمس، وكم هي وضيعة وحقيرة وانتهازية تلك الأسس التي جعلت حرام سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حلالا في 2010. اليوم هناك مشروعان لا ثالث لهما. هكذا قيل للبنانيين من دون أي خيار أو تخيير: مشروع السيطرة الامريكية الإسرائيلية علي المنطقة، ومشروع المقاومة الذي يجب أن يصبح مشروعا للمنطقة. تنعقد مؤتمرات. تهدر حناجر القادة والضيوف. ترتفع أصوات التحدي للقرارات الأمريكية المنافية لمبدأ حرية الإعلام والمقيدة لحركة انتقال المواطنين. تتكاثر الدعوات للتنسيق مع الجارة الشقيقة التي شكلت الحاضن والمستودع ومع الجمهورية الإسلامية التي شكلت الدعم والامداد. تتراجع رويدا رويدا صلابة المواقف المتمسكة بثوابت الحرية والسيادة والاستقلال... وتعود بيروت شيئا فشيئا إلي الصورة السابقة مع "ترشيد" أكبر للعمل الثوري كي يبقي متناغما مع المشروع الإقليمي الأكبر. وغدا، قد يقتضي مشروع العودة أن تتسع قواعد "حماس" في المخيمات بعد معارك حاسمة مع السلطة الفلسطينية، وأن يتمدد السلاح الفلسطيني خارج المخيمات بعدما خفتت الأصوات المطالبة بحصره فيها، وأن تنقل "المصالحات" المربعات الأمنية إلي مناطق جبلية محيطة بالعاصمة تستلهم من تاريخها الوطني شحنات ثورية جديدة، وأن تعبر الظاهرة الأصولية منطق الفزاعة إلي منطقة الأفزاع علي الأرض، وأن يخطف أجنبي في بيروت ويطلق من دمشق... وتلتف القوات الدولية بأحزمة الاسترهان. أن الثورة... أن الثورة... تولد من رحم الأحزان... يا بيرووووت!