الأصل في علاقة المثقف بالمجتمع هو أن يكون مبادراً ومشاركاًَ في أنشطته.. وفي أن يكون له موقف تجاه المجتمع وقضاياه يلتزم به، ويعبر عنه، ويضحي في سبيله.. وهذا الموقف هو ما أشار إليه سارتر في محاضرته التي أشرنا إليها بالأمس تلك المحاضرة التي ألقاها في القاهرة في مايو 1967 إذ أشار سارتر إلي أهمية التفرقة بين المثقف ورجل العلم.. فعالم الفيزياء النووية هو في معمله عالم وباحث.. ولكن إذا وقع علي بيان يدين فيه التجارب النووية، يدعو إلي إخلاء العالم من أسلحة الدمار الشامل، فهنا يتحول إلي مثقف.. فحتي تكون مثقفاً لابد أن يكون لك موقف، ولابد أن يكون لك دور.. ذهب رفاعة رافع الطهطاوي إلي فرنسا إماماً للبعثة.. وفي أثناء إقامته في عاصمة النور حينذاك درس العلوم والأداب مثله مثل من كان معه.. وعندما رجع إلي مصر، كان علي رفاعة أن يختار بين أن يكون عالماً مثلما فعل بقية أفراد البعثة، وبين أن يكون مثقفاً.. بين أن يدرس للتلاميذ ما حصله في فرنسا من علوم، وهو ما فعله بقية زملائه، وبين أن تكون له رسالة في المجتمع، ودور في الحياة.. لقد كسب المجتمع باختيار رفاعة أن يكون مثقفاً خيراً كبيراً.. يكفيه أن يقرن اسمه دائماً مع مؤسس مصر الحديثة محمد علي.. يكفيه أن تكون البداية الحقيقية لبحث مصادر التطوير والتنوير في مصر الحديثة دائماً من عند رفاعة. وفي القرن العشرين بزغ اسم أحمد لطفي السيد الذي لقبه المصريون بلقب استاذ الجيل، إشارة إلي عمق تأثيره في كل تلاميذ عصره وأساتذته.. كان لطفي السيد استاذاً لطه حسين، وهيكل، والعقاد، والمازني، وزكي نجيب محمود وغيرهم.. كان تخصص الاستاذ هو الفلسفة، باحثاً ومعلماً ومترجماً لأشهر كتبها.. وهو تخصص يجبر البعض علي الانعزال والتقوقع.. ولكنه علي الرغم من ذلك، بالإضافة إلي ذلك، اختار لنفسه ولنا أن تكون له رسالة تثقيفية.. أسس لطفي السيد حزب الأحرار الدستوريين، وهو من الأحزاب السياسية التي كان لها شأن كبير في الحياة السياسية قبل الثورة.. وبعد الثورة، ذهب إليه الضباط الأحرار لكي يقنعوه بأن يكون رئيساً لمصر، ولكنه اعتذر لهم وفضل أن يكون مثقفاً مؤثراً ومبادراً. المثقفون حينما يبادرون، وحينما تكون علاقتهم مع المجتمع علاقة مشاركة وانغماس لا علاقة ترفع وابتعاد، يتحول المجتمع من حالة الموات والسكون إلي حالة الحركة والنشاط.. ومن حالة الجمود الذي يصيب شرايين المجتمع إلي حالة التدفق الحر والسريع للدماء.. فعلها مثقفو فرنسا قبل الثورة الفرنسية.. فعلها جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو وغيرهم، عندما أشعلوا نار الثورة في قلوب الفرنسيين، وبفضلهم تحول العالم من حال إلي حال أخري. وفعلها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر، اللذان أشعلا جذوة الأمل في قلوب أحمد عرابي، والبارودي، وعبد الله النديم، وسعد زغلول، ومصطفي كامل، ومحمد فريد، وقاسم أمين، ورشيد رضا وغيرهم.. أيقظوا المجتمع من غفوته، كل في مجاله، وأعادوا له نبضه وحيويته. خلاصة القول: إن المثقفين عندما يبادرون وعندما يؤمنون بأن لهم دوراً في الحياة، ورسالة في المجتمع، يتقدم المجتمع إلي الأمام، وتنمو في جنباته أشجار الأمل في غد أفضل.