تساقطت أوراق عامنا المنصرم2009 أسرع من تساقط أوراق الخريف .. وتتابعت الاحداث مثل قطرات المطر التي تتساقط علي غصون الاشجار قبل ان تنحدر لتروي ظمأ الارض ...لا يبقي في ذاكرتي عن العام سوي احياء ودعتهم علي لقاء في عالم آخر اكثر شفافية وعذوبة ، طوال العام لم اشعر بذاتي ككاتب محترف " سابقاً " اقصد آلام الكاتب ومعاناته ..سوي حينما تأملت مقولة الراحل الكبير كامل زهيري... فوجدت نفسي قد تحولت الي كاتب هاو .. وقارئ محترف! وهكذا اصبحت مسكوناً بشغف القارئ وكلما فاضت كلمات القارئ يختنق الكاتب ... وعرفت لماذا كان مفتتح دعوة الله في القرآن الكريم : " اقرأ باسم ربك الذي خلق "... وهنا ادركت ان القراءة رؤية وحياة ومسيرة وخبرة " خلق" مشتركة بين الكاتب والكلمة والقارئ وقادني ذلك الشعور للتأمل في المقولة الانجيلية : "والكلمة صارت بشراً".. وهكذا تنتقل الكلمة من معناها الالوهي الي الادراك الانساني ما بين الكاتب والقارئ وتصبح الكتابة بمعناها الضميري الانساني هي مساهمته مع الله سبحانه وتعالي في الخلق، وتتجسد في جدل العلاقة بين الكلمة والكاتب والقارئ والتغيير الذي يعني الحركة والتقدم وربما التراجع ... ومن ثم تصير الكلمة اساساً للحياة كمسيرة انسانية .. ومن عمق تأملاتي الي افتقاد الذين رحلوا..دار بخلدي :"أحن إلي خبز أمي وقهوة أمي وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي " هكذا كتب محمود درويش عشقا في امه... وماذا لو ماتت الام وابنها كان يعيش في غربتين ... غربة المرض وغربة المسافات ... ولا يستطيع ان يودع امه ... فهل سوف يخجل من دمعه علي امه ، ويتماهي الحلم والأم لاول مرة اكتشف الحبل السري بين الام وابنها قد يقطعه الطبيب بعد الولادة .. ولكن الحبل السري يظل موصولاً للابد يمد الابن بطاقة من الحنان اللامرئي ويظل يبحث عن امه في زوجته او ابنته ... ويراها حتي وان رحلت عن عالمنا في ضحكة طفل او ابتسامة وردة برية او قطرات ندي علي جبين اقحوانة .. ويتحول الحلم الي حقيقة حينما يتألم المرء ويقوده ضعفه للبحث عن الحنان المفقود ابان توقه للحنين الانساني المجهول .. ... ويتكورعلي وحدته اللا نهائية داخل رحم احزانه بحثا عن الأم. ومن وجع البعاد عن الام الي مرارة افتقاد الصديق والرفيق محمد سيد سعيد... رحل محمد عن عالمنا ... وذقت مرارة الحزن .. وتأملت ذلك وانا اتساءل : لماذا يخجل الانسان المصري في التعبير عن الحب .. والضعف الانساني النبيل ؟ احببت محمد سيد سعيد الانسان والمعلم والباحث والمفكر واخيراً الصحفي ورئيس التحرير .... ومن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالاهرام وحتي البديل مرورا بدوره الريادي في تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الانسان مئات المواقف الضميرية التي تجسدت في اشكال مختلفة من التعبير .. بحيث كان محمد اقرب للحجر الكريم الذي كلما انعكس علية الضوء اعطي لنا لونا يختلف عن الآخر.. وما بين الالوان المختلفة للباحث والكاتب والمفكر والصحفي يتجسد الانسان الضميري.. ويعجز من لا يدرك محمد الانسان ان يعرف المشترك الانساني لالوان الطيف لذلك الحجر الكريم الانساني المدعو محمد ... وسوف يدخل من يريد ان يتوقف امام كل لون علي حده في حيرة نبيلة.. ولذلك لا يجب ان نفصل بين الانسان وبين المنتج الانساني .. وبالطبع في عالم مليء بالمتناقضات ... ووطن يعبر من جراحات حادة تتم بدون " بنج" ... يصعب علينا ان نطلب من المواطن القارئ ألا يتوجع مع الكاتب وهو يقتسم معه الحب والحزن والكلمة. وما بين القارئ والكاتب امومة الكلمة وصداقة سطوره في دفتر يوميات الحزن العادي ... ويعود لحزن الكلمات طعم حزن محمود درويش : " آه يا جرحي المكابر وطني ليس حقيبة وانا لست مسافر" وهنا يصعب ان نطلب من المواطن القارئ ألا يتوجع وهو يطالب كاتبه المفضل أو صحيفته المفضلة ان يتخذ أو تتخذ موقفاً وفق هواه ورغباته في التغيير .. ولكن ماذا يفعل الكاتب ان كان يكتب للحاضر الآتي ؟ واراد ان يساهم مع الله في الخلق والتغيير.. او علي الاقل في وقف التدهور الانساني والقيمي في مصر ، ومن ثم فالكاتب والصحيفة يحتاجان لقارئ ضميري خاصة وان الصحافة صارت سفينة " نوح" مهمتها الاساسية الحفاظ علي النوع الانساني النبيل اكثر من المشاركة في التغيير .. وربما لأن الطوفان سيكون اكبر من طاقتنا وقدرتنا علي التغيير... اذن فالحزن الاكبر في 2009 لم يكن ينصب علي فقد الاعزاء فحسب.. بل يتركز علي تحول الكلمة الي سلعة او احجبة او ايقونة ! يختلط فيها الحبر بالوهم ونخرج من عصر الكلمة الي عصر الشفاهة ... ويطل من كل فضائية بائعو الوهم وحبوب الوجد الوطني ويباع الوطن تارة باسم الدين واخري باسم التغيير ويكثر الدجالون وتصبح كلمة السر للعبور الي الجماعة الوطنية رغيف خبز للفقراء... ودستور للمثقفين .. وتمتد طوابير الخبز وتتسع حلقات دراويش الدستور .. وتصبح حماية أمن الوطن خيانة!! ويخلط باعة الوهم بين مقولة ادم سميث " دعه يمر دعه يعبر " وبين حماية حدود الوطن ! ويضيق الوطن ليتحول الي ملعب كرة قدم .. ويتحول العلم والنشيد الي خرافة .. ويتجه الناس الي السماء بحثاً عن العذراء .. وتتحول الكتابة من مهنة البحث عن الحقيقة الي البحث عن الوهم ويتماهي القلم مع قدم لاعب كرة .. ويشارك القلم رؤي البسطاء لاطياف نورانية قادمة من السماء فوق قباب الكنائس، او ينتظر القلم احد العلماء قادمًا من العالم الاول ويريد ان يدغدغ احلام البسطاء ولا يفرق بين انشطار الذرة وانشطار الحلم .. ولا يدرك ان معادلة تخصيب اليورانيوم تختلف عن معادلة تخصيب الوطن !! ويكثر الدجالون ويتحول مسجل تزوير الي مخلص يريد ان يزور احلام الغد الافضل .. ولا يبقي امامنا في مطلع 2010 سوي محاولة ايقاف الحراك الضميري الذي اصاب معظم اهل الكلمة !! " ربي لا اسألك رد القضاء بل اسألك اللطف فيه ".