جاء القرن الحادي والعشرون وفي جعبته صدمة مؤلمة لمهنة الصحافة وللمؤسسات الخبرية والإعلامية في العالم كله،فالتغيرات الكبيرة في طريقة تداول الخبر إلي جانب تداعيات الكساد العالمي 2007-2009 والقيادة المتهورة التي قادت بعض المؤسسات -مثل مؤسسة تريبيون العملاقة للنشر- إلي الإفلاس،أدت جميعا إلي وضع الصحافة في مأزق حقيقي. لرصد ومناقشة الكارثة التي تواجه الصحافة العالمية عموما والصحف الأمريكية خصوصا صدر مؤخرا كتابان الأول يحمل اسم "فقدان الأخبار: مستقبل الصحف التي تغذي الديمقراطية" للكاتب الأمريكي أليكس جونز مدير مركز جوان شورنستاين للصحافة والسياسة العامة بجامعة هارفارد،وفيه يركز جونز علي كيفية ظهور شبكة الإنترنت وتطورها ودورها في تراجع الإقبال علي الصحافة المطبوعة،بينما الكتاب الثاني يحمل اسم "عين الصحافة الهائمة: تاريخ نقل الخبر في أمريكا" وفيه يركز مؤلفه جون ماكسويل هاميلتون علي عملية جمع الخبر وعن الصحفيين والمراسلين الذين يواجهون الضغوط المتزايدة منذ ظهور الانترنت. بداية يعرف جونز مهنة الصحافة بحرفة جمع الأخبار لكنه يقول إنه بمرور الوقت تطورت لتشمل مجموعة من المعايير والممارسات التي - إن تم تطبيقها بشكل سليم- تجعلها مصدرا موثقا للحقائق يقع ثقله علي الكتاب والمحررين من ذوي الخبرة المهنية. ويري جونز أن الصحافة حتي وإن كان بها بعض أوجه القصور أو التجاوزات فإنها في النهاية أحد أهم عناصر الديمقراطية،لأن المساءلة الصحفية تلعب دور الرقيب علي الحكومة وذوي النفوذ والسلطة وتضمن حق المجتمع بما يعزز الديمقراطية. ويسرد جونز بعض الأسباب التي تهدد المؤسسات الصحفية بشكل موسع ويذكر منها؛أولا أزمة التمويل، إذ يقول جونز في كتابه أن المؤسسات الصحفية هي التي تشكل وعي الناس وعلي الرغم من أنها تعد من الأصول المدنية شأنها شأن الجامعات والمتاحف والمستشفيات إلا أنها لا تعتمد في تمويلها علي أموال الضرائب أو التأمينات أو العمل الخيري بل تعتمد بشكل كبير علي أموال الإعلانات غير الثابتة. وقد يؤدي انخفاض نسبة الإعلانات في الصحف إلي إغلاق البعض منها وهو ما حدث بالفعل في الأزمة المالية الأخيرة إذ انخفضت عائدات الإعلانات في الصحف بنسبة 23٪ في العامين الأخيرين فأفلست بعض الصحف بينما فقدت صحف أخري حوالي ثلاثة أرباع قيمتها، و علي ذلك فإن حوالي جريدة من كل خمس جرائد كانت موجودة عام 2001 قد أغلقت أبوابها، و لم تعد موجودة. ثانيا؛ التكنولوجيا الحديثة التي أدت لتراجع دور الصحف المطبوعة واستبدالها بالصحف الإلكترونية بالإضافة لتغييرها لاتجاه القراء الذين أصبحوا يعتمدون بشكل كبير علي المدونات الإلكترونية كمصدر خبري متجاهلين بدلا من الصحف،وهنا يصور جونز ثقافة المدونات أو (البلوجز) بثقافة الوجبات السريعة التي تشبع وتضر في الوقت نفسه،فالمدونات تحمل الأخبار المتنوعة لكنها لا تضمن التحقيقات العميقة ولا التغطية المنتظمة مثل الصحف وبالتالي لا يكون عندها التوثيق الكامل الذي يتيح لها القيام بعمل مساءلة أو كشف حساب وهو ما يقوض حالة الديمقراطية التي يتعطش لها المجتمع. وعليه فإن جونز يؤكد أن المجتمع لا يجب أن ينتظر دعم السياسيين أو الاقتصاديين للمؤسسات الصحفية التي لطالما كانت مصدر إزعاج لهم. ويمسك جون ماكسويل هاميلتون طرفا آخر من خيوط الأزمة ويعقد مقارنة بين حالة الصحافة في القرنين العشرين والحادي والعشرين في محاولة لرصد مظاهر الضعف العام التي قد تؤدي لتداعي الصحافة برمتها إذ يعتبر أن القرن العشرين هو العصر الذهبي للصحافة والإعلام ففي بداياته كان أباطرة الإعلام في أمريكا أمثال ويليام راندولف هيرست وروبرت ماكورميك وجوزيف بوليتزر هم الشخصيات الأكثر تأثيرا علي السياسة الخارجية، إذ قاد هيرست صحيفة نيويورك ليجعلها تشجع - إن لم يكن قد جعلها عاملا مساعدا- الحرب الإسبانية الأمريكية أما ماكورميك فقد جعل من صحيفة شيكاغو تريبيون أعظم صحيفة في العالم وبولتيزر فقد أنقذت تقاريره 24 من الرقيق الأبيض في يوكاتان. أما في الوقت الحالي فإن عدد المؤثرين في المجال نفسه في تراجع إلا أن أبرزهم علي الإطلاق هم؛ توماس فريدمان ونيكولاس كريستوف من صحيفة نيويورك تايمز وفريد زكريا في مجلة نيوزويك إذ يعتبرون من القلائل في أمريكا ممن لا تزال تقاريرهم ومقالاتهم مؤثرة في القضايا الدولية. ويوضح هاميلتون أن منحني الصحافة الأمريكية ظل في حالة صعود مستمر منذ الحرب العالمية الأولي حتي وصل لقمته في الثمانينيات من القرن الماضي إذ بلغ عدد المراسلين في الخارج بضع مئات حول العالم كله لعمل تغطيات خبرية للجرائد والمجلات والتليفزيون،لكن العدد تراجع بشدة في 2008،وهنا يسأل هاميلتون عن مدي تأثير هذا التراجع علي عملية جمع ونقل الأخبار العالمية وبالتالي تأثيره علي الصالح العام. ويقول هاميلتون أنه في السنوات الأخيرة اضطرت الصحف والمجلات التي كانت تتمتع بتمويل جيد إلي خفض حجم - إن لم يكن إغلاق- مكاتبها في الخارج،ففي أيام المجد- علي حد وصف الكاتب- كان المكتب شبيهاً بمكاتب الدبلوماسيين رفيعي المستوي،لكن في الوقت الحالي فإن الحالة أصبحت مزرية فالمكتب عبارة عن شقة متواضعة يعمل بها مراسل واحد ويساعده في إنجاز مهمته جهاز كمبيوتر محمول وهاتف نقال فقط. وبعكس جونز يري هاميلتون أن الإنترنت لم يؤثر بالسلب علي الصحافة لأنه يؤثر بالإيجاب علي عملية تداول الأخبار،كما أن الصحف تستطيع استغلال المسألة عن طريق عمل مواقع خبرية إلكترونية مميزة لتستفيد بالاشتراكات والإعلانات في الوقت نفسه إذ يعتقد أن صنّاع الخبر عليهم معرفة كيفية تحويل الجمهور إلي صالحهم فإن كانت عملية العودة للصحافة المطبوعة أمراً صعباً، فإنه يمكن تنشيط الصحافة الإلكترونية لإنقاذ الموقف. في الكتاب الأول يبدو المؤلف قلقا من مشكلة التمويل ويري أن الصحف يجب أن تجد ممولاً ثابتاً لها من القطاع العام والخاص علي حد سواء بينما يبدو هاميلتون أكثر تفاؤلا باعتبار أن روح الابتكار لا تنتهي وهي القادرة علي حل المشكلة،لكن في كلتا الحالتين يؤكد الكاتبان علي أن الدافع الإنساني لجمع ونشر المعلومات باق وأن الوسيلة فقط هي التي قد تتغير لكن الصحافة ستبقي موجودة دائما بشكل أو آخر.