إسرائيل أكبر متلق للمساعدات الأمريكية منذ إنشائها، في دراسة أخيرة للكونجرس الأمريكي تبين أنها تلقت حتي عام 2008 أكثر من 113 بليون دولار - وليس مليونًا - من هذه المساعدات إلي جانب طبعا ما يقدمه يهود أمريكا مباشرة. لا يمكن أن نطلق علي ذلك اسم مساعدات فهي في الوقت هبات لا ترد. إسرائيل تعد الدولة الأولي التي تتلقي ذلك من الولاياتالمتحدة بالرغم أن متوسط دخل الفرد فيها يقارب أغني الدول، والمفروض أن المساعدات الأمريكية تقدم للدول النامية أساسا. كما أن المساعدات التي تتلقاها من واشنطون غير مشروطة بضرورة استخدامها في شراء سلع أمريكية أو أن تنقل علي سفن أمريكية، إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تتلقي شيكا من واشنطون بقيمة المساعدات السنوية ويمكن أن تستخدمه كما تشاء. والوورث باربور سفير الولاياتالمتحدة في إسرائيل الذي عين أثناء عهد الرئيس الأمريكي كينيدي عام 1963 وظل في تل أبيب حتي عام 1973 كان مواليا جدا لإسرائيل حتي ضد وجهات نظر وزارة الخارجية الأمريكية التي من المفترض أنه كان يمثلها، وكان دائما يبرر التصرفات الإسرائيلية والطلبات التي لا تنهتي من واشنطون لمساعدات سواء اقتصادية أم عسكرية. محاورة من مكتبة كينيدي كان من المتعاطفين أيضا مع إسرائيل وكانت كل اسئلته تشير إلي المواقف الإسرائيلية التي للأسف - في رأيه - تعارضها أو لا تتفق معها الخارجية الأمريكية، من قوله مثلا أنه بالنسبة لسياسة القروض الأمريكية لإسرائيل وهي القروض المفترض أن تضمنها الحكومة الأمريكية وهو امتياز أيضا لا تحصل عليه إلا دول قليلة علي رأسها إسرائيل فأنها خفضت عام 1963 ثم مرة أخري في عهد الرئيس جونسون في الوقت الذي كانت تسعي فيه إسرائيل للحصول علي قروض أكثر. باربور يقول إن الإسرائيليين مفاوضون شاطرون والكلمة التي استخدمها مفاصلين Bargainers أكفاء، فهم يطالبون بالكثير في بداية أي مباحثات وفي قرارة أنفسهم يكونون قد توصلوا من قبل إلي قرار حول الحد الذي سيقبلونه علي ضوء المعطيات السائدة في تلك الفترة، ويضيف أنهم في حين كانوا يحتجون لديه رسميا كسفير للولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يصل إلي مرحلة تقطيع الهدوم أو البكاء إلي جانب أن الجالية اليهودية في الستينيات كانت تقدم ما لا يقل عن 70 إلي 80 مليون دولار سنويا لإسرائيل. أود أن أحكي هنا عن تجربة شخصية شاهدها عندما كنت أعمل في الولاياتالمتحدة في السبعينيات من القرن الماضي، كل عام كانت تحضر إلي الولاياتالمتحدة بعثة إسرائيلية كبيرة تطوف مختلف الولايات لتسويق السندات الحكومية الإسرائيلية وتحاول اقناع المنظمات اليهودية وغير اليهودية بالاستثمار فيها بتخصيص مبالغ معينة في ميزانياتها لهذا الغرض، كانت غالبية هذه المنظمات مقتنعة أن الاقتصاد الإسرائيلي في ذلك الوقت يعاني من مشاكل كثيرة ولم يكونوا يتوقعون استيراد أموالهم عند استحقاق موعد هذه الشهادات. ولكن الإغراء هنا أن من يشتري هذه السندات يمكن أن يخصم قيمتها من الضرائب التي يتوجب عليه سدادها للحكومة الأمريكية عن دخله، أي أن إسرائيل كانت الرابحة في النهاية، والذي يخسر هو الخزينة الأمريكية، ولا يزال هذا الأمر مستمرا حتي الآن وخاصة بالنسبة لعدد من المشروعات الخيرية الإسرائيلية المسجلة في الولاياتالمتحدة التي تجمع أموالا طائلة من الأمريكان بدعوي أنها غير خاضعة للضرائب الأمريكية. تحدث باربور عن عمل السفارة الأمريكية في تل أبيب التي كانت مكونة من عدد يتراوح ما بين 50 و60 شخصا بعضهم دبلوماسيون تابعون للخارجية الأمريكية والبعض الآخر ملاحق عسكريون، إذ لم توجد بعثة عسكرية أمريكية في إسرائيل حيث أن موشي ديان رئيس الأركان الإسرائيلي في هذه الفترة كان يعارض ذلك لأنه لم يكن يريد أن يعبث أفراد مثل هذه البعثة في أرجاء إسرائيل ويعرفون أسرارها، وفي السفارة الأمريكية كان يعمل عدة مئات من الإسرائيليين في وظائف مختلفة وهم بالطبع كانوا ينقلون إلي السلطات الإسرائيلية تفاصيل كل ما تقوم به السفارة وأعضاؤها، كما كان يوجد أيضا قسم كبير ملحق بالسفارة مخصص لدفع مخصصات اليهود الأمريكيين في جيش بلادهم، كان يسمح لليهود الأمريكيين بادائها في الجيش الأمريكي ويعفون من أدائها في الجيش الأمريكي. تعرض باربور إلي رد فعل الإسرائيليين علي اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي وأيضا إلي نظرتهم إلي خلفيته جونسون الذي أصبح من أكثر الرؤساء الأمريكيين موالاة لإسرائيل، وتعاون معه السفير باربور في ذلك إلي أقصي حد وخاصة في التغطية علي البرنامج النووي العسكري الإسرائيلي، خلال عهد كينيدي كانت هناك علي الأقل بعض القيود من واشنطون علي عمل السفير باربور في إسرائيل، أما في عهد جونسون فقد كان متناغما مع الرئيس في الولاء لإسرائيل، أما في عهد نيكسون فقد كانت تعليماته تأتي من هنري كيسنجر المعروف بميوله الإسرائيلية الواضحة سواء كمستشار نيكسون للأمن القومي أو كوزير للخارجية، وكان هو الشخص الوحيد في التاريخ الأمريكي الذي جمع بين المنصبين. وعلاقاته ومحاباته لإسرائيل خلال حرب 1973 واضحة للعيان. يقول باربور أن ليفي أشكول رئيس وزراء إسرائيل لم يجد أي صعوبة في إنشاء علاقات وثيقة مع الرئيس جونسون وأرجع أن ذلك قد يكون لأن كليهما أصله من المزارعين. ويتذكر هنا أن أشكول أبدي الرغبة في زيارة واشنطون لمقابلة جونسون ولكن الخارجية الأمريكية قالت إن أشكول كان قد قام بزيارة رسمية للولايات المتحدة منذ وقت قصير ونصحت جونسون بعدم الموافقة علي الزيارة، ولكن جونسون قال - طبقا لرواية باربور - ما يلي: أنا الآن في إجازة، الخارجية تقول لي لا تفعل ذلك فليذهبوا إلي الجحيم، أن أشكول صديق لي وسيحضر كضيفي، وإذا لم يستطع الحضور إلي واشنطون فسأذهب أنا إليه. حتي في بداية عهد جونسون حاول عدد من المسئولين الأمريكيين كبح جماح اتجاهه نحو تأييد إسرائيل، هناك مذكرة سرية مرفوعة إلي ماكجورج باندي مستشار الرئيس للأمن القومي في البيت الأبيض من روبرت كومر المسئول عن مسائل الشرق الأوسط وكلاهما سبق له العمل مع الرئيس كينيدي وكانا علي علاقة مع مصر والرئيس عبدالناصر، المذكرة بتاريخ 14 فبراير 1964 ويقول فيها كومر أنه علم من مصدر موثوق وتأكد من مصادر موثوقة أخري أن لدي الكثير من العرب شعورًا بأن سياسة أمريكا الشرق أوسطية قد تغيرت، ولو أن ذلك قد يغزي إلي عوامل طارئة منها اغتيال الرئيس كينيدي وموضوع تحويل مياه نهر الأردن، ولكن الأمر يظهر كما لو أن الرئيس جونسون موال لإسرائيل وأبطل كل سياسة كينيدي الحريصة التي استمرت لفترة ثلاث سنوات في التعامل مع العرب، بل أن هذا الانطباع موجود في الولاياتالمتحدة نفسها وقد تحدث معه الكاتبان الصحفيان المشهوران جوكرافت ورولي ايفانز حول نفس الموضوع ولكنه كان ينكر لهما ذلك تماما. وتضيف مذكرة كومر أنه يبدو أن الرئيس جونسون نفسه قد علم بالأمر أيضا، ولذلك قرر ألا يقول الكثير في خطابه أمام احتفال معهد وايزمان الإسرائيلي الذي عقد في نيويورك من أجل الحصول علي تبرعات أمريكية لتمويل نشاطه ومؤخرا ألقي باللوم علي السفير هاريمان الذي أدت تصرفاته إلي إثارة المتاعب له مع العرب. رأي كومر في مذكرته ضرورة اتخاذ خطوات محددة وقال أنه يعمل مع الخارجية الأمريكية علي برنامج عملي لذلك من أجل حماية السياسة الأمريكية العربية خلال عام 1964 لكي تكون متوازنة مع ما تفعله مع إسرائيل ومنها: 1 تقديم قرض بشروط معينة إلي الجمهورية العربية المتحدة 2 التأكيد علي أن واشنطون لا تساعد إسرائيل أن تصبح قوة نووية 3 ارسال خطاب من الرئيس جونسون إلي الرئيس عبدالناصر 4 تنظيم زيارة للملك حسين إلي واشنطون 5 القيام بمحاولة جديدة لضبط التسليح مع جمال أي الرئيس عبدالناصر. أشر ماكجورج باندي مستشار جونسون للأمن القومي علي مذكرة كومر بأنها مذكرة جيدة وطلب موافاته بمشروع خطاب من جونسون إلي الرئيس عبدالناصر وهو ما تم بالفعل، لكي يرسل بالتزامن مع الرد علي أشكول رئيس وزراء إسرائيل. أعتقد أن بكلمات جونسون السابقة حول زيارة أشكول إلي واشنطون يمكن لنا إنهاء هذه الحلقات التي أوضحت أن كلا الرجلين الرئيس الأمريكي وسفيره في تل أبيب كانا متفقين علي تأييد كل ما تطلبه إسرائيل حتي ضد المصالح القومية الأمريكية، باربور كان في الواقع سفيرا جيدا لإسرائيل في واشنطون وليس العكس. عرضنا في حلقات سابقة في روزاليوسف فترة عمل جون بادو كسفير للولايات المتحدة في القاهرة وفترة عمل باربور كسفير للولايات المتحدة في تل أبيب وكلاهما عين من جانب الرئيس كينيدي عام 1961، ويتضح لنا بالطبع الفارق الضخم بين الرجلين.