والوورث باربور سفير أمريكا في تل أبيب في الفترة من 1961 إلي 1973 قابل العديد من الشخصيات الحكومية وغير الحكومية الإسرائيلية عبر عدة حكومات، كما خدم عدد من الرؤساء الأمريكيين من كينيدي إلي جونسون إلي نيكسون، ولكنه كان دائمًا مؤيدا لوجهات النظر الإسرائيلية. في رسالة بعث بها إلي الخارجية الأمريكية عن تعامله مع جولدا مائير وزيرة خارجية إسرائيل في يناير 1962 التي أثارت ما أسمته بالضغط الذي تمارسه واشنطن علي الحكومات الأجنبية لمنعها من إنشاء سفارات لها في القدس.. من المعروف أن كل السفارات الأجنبية ما زالت توجد في تل أبيب لأن العالم لا يعترف بضم إسرائيل للقدس ولو أن الموقف الأمريكي شابه الكثير من الضعف في السنوات الأخيرة حيث يصر الكونجرس الأمريكي علي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس بل ويخصص اعتمادات مالية لذلك.. ولكن الرئيس الأمريكي عليه كل ستة أشهر أن يرسل مذكرة إلي الكونجرس بأسباب تدفع إلي تأجيل تنفيذ هذا القرار بسبب مصلحة الولاياتالمتحدة إلخ.... كانت جولدا مائير في هذه المقابلة غير سعيدة لأنها شعرت أن الولاياتالمتحدة قد منعت ليبيريا من إنشاء سفارتها في القدس وطلبت من السفير توقف بلاده عن ممارسة مثل هذا الضغط.. وجاء في التقرير أن باربور أبلغها أن الولاياتالمتحدة تؤيد قرار الأممالمتحدة حول القدس، وهو ما دفعها للرد عليه قائلة: لماذا لا تقف الولاياتالمتحدة إذن وراء قرار الأممالمتحدة بشأن حرية الملاحة عبر قناة السويس؟ (أي مرور كل السفن بما فيها الإسرائيلية).. يعلق باربور علي ذلك أن جولدا مائير كانت محقة في توقعها ووصفها أنها أصبحت صديقة حميمة له وكانت سيدة عظيمة ذات شخصية قوية ولو أنه لا يمكن وصفها بأنها أكثر الشخصيات العالمية مرونة.. ويضيف مبررا ذلك أن تاريخها وإخلاصها لدولة إسرائيل قد يكون السبب في ذلك.. وكانت دائمًا تقول له إنها هي التي تفسر المواقف الأمريكية للشعب الإسرائيلي، خاصة أنها لم تولد في إسرائيل ولكنها هاجرت إليها من الولاياتالمتحدة وعمرها ثماني سنوات. يتحدث باربور أيضا عن حديث بينه وجولدا مائير علي انفراد حيث كانت دائما تعطيه دروسا في سياسة أمريكا الخارجية وتكرر عليه أن ما تفعله واشنطن خطأ، مما ضايقه بعض الشيء وجعله يقول إن بلاده قامت بمعروف كبير باعترافها بإسرائيل كدولة مستقلة في مقدورها أن تتخذ قراراتها بنفسها، ولذلك هل يعد أمرا ضخما إذا ما قامت هي وإسرائيل بفعل نفس الشيء نحو الولاياتالمتحدة، وهو أمر أغضبها بعض الشيء.. أعتقد أن باربور ندم علي تفوهه بهذه العبارات لأن الإسرائيليين واللوبي اليهودي في أمريكا يتعمدون في كل مقابلاتهم مع المسئولين الأمريكيين أن يكونوا في موقف المهاجمين وينتقدون بشدة أي موقف أمريكي يرون أنه ليس في صالح إسرائيل مائة في المائة ولا يتقبلون مثلا عدم استجابة واشنطن الفورية لطلبات إسرائيل المستمرة من أسلحة ومساعدات.. لا يجرؤ أي مسئول أمريكي علي انتقادات السياسة الأمريكية سواء سرا أو علنا. أما عن علاقة باربور مع بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل في هذه الفترة فيصفها بأنها كانت علاقة إعجاب واحترام في نفس الوقت، ولكنها لم تكن علاقات حميمة، وهذا في رأيي يتفق مع سياسة بن جوريون وشخصيته إذ كان شخصية غير ودودة عبوسة ولا يقيم وزنا للعلاقات الشخصية أو الصداقات وهو نفسه -أي باربور- يقول إن بن جوريون لم يكن شخصية محبوبة داخل إسرائيل ولم يكن يمتلك أي حس للدعابة علي الإطلاق، كان مؤدبا في غالبية اللقاءات مع الأجانب بصفة خاصة ولكنه لم يكن كذلك مع الإسرائيليين، وقد تعارك مع جولدا مائير عدة مرات في لقاءات خاصة. وحتي جولدا مائير لم يكن لديها حب الدعابة خاصة إذا كان الموضوع سياسيا، ولكن حتي عند إلقاء الدعابة فإنها كانت لا تبتسم أو تضحك ويبدو أن هذه هي سمة غالبية المسئولين الإسرائيليين حتي الآن. بالنسبة لعلاقاته مع السفير الإسرائيلي في واشنطن إبراهام هارمان (الذي تعود أن يتعارك علانية مع المسئولين الأمريكيين وكان خشن الطباع) يقول باربور أن علاقتهما كانت وثيقة وكان يراه ويقابله كثيرًا وحتي بعد تقاعده فإنه يزور الولاياتالمتحدة كثيرًا وتولي رئاسة الجامعة العبرية. يتذكر مقابلة معه في مايو 1962 عندما قال باربور إن الإسرائيليين جامدون جدًا فيما يتعلق بالأمور الأمنية، فعلق هارمان أنه في بعض الأحيان يمكن أن يكونوا أيضًا عاطفيين وسبب ذلك كونهم دولة صغيرة محاطة بالأعداء، وسأل باربور لماذا الولاياتالمتحدة مثلا عاطفية جدا تجاه كاسترو في حين أن الأخطار من جانب كوبا علي الولاياتالمتحدة أقل بكثير. تحدث باربور أيضًا عن شيمون بيريز رئيس إسرائيل الحالي وكان شابًا صغيرًا عندما عينه بن جوريون مديرا عامًا لوزارة الدفاع الإسرائيلية وأوكل له مهمة الحصول علي الأسلحة من الخارج. وللعلم فإنه ساهم مع بن جوريون في ترتيبات العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956 وكان همزة الوصل مع فرنسا للحصول علي المساعدات الفرنسية في المجال النووي وفي تطوير البرنامج النووي العسكري الإسرائيلي. في يونيو 1962 قام بيريز بزيارة واشنطون للمطالبة بحصول بلاده علي أسلحة أمريكية حديثة وكان ذلك قبل صفقة صواريخ هوك وأثار بصفة خاصة حصول مصر علي طائرات ميج 21 من الاتحاد السوفيتي. التقارير الأمريكية السرية تقول أن المسئولين الأمريكيين كانوا يعتقدون أن بيريز كان يبالغ كثيرًا في قدرة مصر العسكرية وهو أمر تعود عليه الإسرائيليون، بالتهويل عما تحصل عليه مصر من أسلحة لتأكيد مطالبهم بأسلحة أمريكية ضخمة وحديثة. وأحد هذه التقارير في أغسطس 1962 للمخابرات الأمريكية يقول أن إسرائيل تعمدت تسريب معلومات إلي المعلق الصحفي روسكو دورموند عن النشاط العسكري السوفيتي في مصر وهو أمر غريب واعتبرته المخابرات الأمريكية مبالغ فيه جدًا من جانب إسرائيل يهدف إلي دفع واشنطن إلي إعطائها صواريخ هوك. يعلق باربور علي ذلك أن إسرائيل كانت تبالغ أحيانًا في مواقفها كما فعل السفير الإسرائيلي هارمان في واشنطون، لأنهم - أي الإسرائيليين - كانوا ينظرون إلي الموضوع بأنه يشكل خطرًا أكبر بكثير مما كانت واشنطون تنظر إليه بالإضافة مثلاً إلي موضوع العلماء الألمان في مصر. ولكن باربور يقول أن هذا الموضوع الأخير كانت له ناحية عاطفية حيث أن عمل هؤلاء العلماء لم يشكل لإسرائيل مسألة تقلق منها كثيرًا، ولكن تواجدهم في مصر كان معروفًا وهو أمر أخافهم بعض الشيء وخاصة بين الرأي العام الإسرائيلي. وعلي العموم فإنه يري من جانبه أن الإسرائيليين لم يكونوا يبالغون خلال محادثاتهم مع الأمريكان حول زيادة القدرات العسكرية لمصر. في الحلقة القادمة يتحدث باربور عن الخطابات التي تبادلها كينيدي مع بن جوريون وإصرار الأخير علي توقيع اتفاقية أمنية مع واشنطون والتهديد بإمكانيات إسرائيل النووية إذا لم يتم ذلك.