من أجمل تيترات الأفلام، وأقواها للمخرج ألفريد هيتشكوك، تيتر فيلم الطيور، غربان سوداء، تصفيق أجنحة، خليط أصوات، نوارس، وغربان، تآكل أسماء فريق العمل علي الشاشة، محاكاةً لنقرات الطيور الحادة. داخل الفيلم تري جيسيكا تاندي أم رود تايلور قبل اكتشافها لجثة المُزارع، فناجين معلَّقة من آذانها، متآكلة بفعل نقرات الطيور. يحكي هيتشكوك لتروفو، أنه كان يحتاج إلي شيء مثير يدفع الأم والمُشاهد معاً للتقدم أكثر في منزل المُزارع، فابتكر الفناجين المُعلَّقة من آذانها في ردهة المنزل. لم يذكر هيتشكوك أن نقرات أسماء فريق العمل علي تيتر الفيلم تُمهِّد أيضاً لنقرات الفناجين، ولم يذكر أن استجابة مادة الفنجان الصلبة لنقر الطائر، وكأنها مادة أكثر ليونة، تضع مخيلة المُشاهِد وجهاً لوجه، ودون رحمة، أمام استجابة جسم الإنسان لهذا النقر الوحشي. بألمعية يقول تروفو: إن العالم أجمع كان يتوقع بعد الحرب العالمية الثانية أن تكون نهاية البشرية علي يد سلاح نووي، وإن الكارثة أبعد ما تكون عن الطيور. ليستْ الصقور أو النسور، بل النوارس والغربان، يقول هيتشكوك مُبالغاً بعض الشيء في بعده عن المُتوقَّع، مع أن النوارس والغربان لا تقل شراسة عن الصقور والنسور. يظهر ألفريد هيتشكوك في أول مشهد من الفيلم خارجاً من محلٍ لبيع العصافير والكلاب بينما تدخل تيبي هيدرون. سنَّ هيتشكوك عرف ظهور المخرجين في أفلامهم، لكن لم يصل لاحقاً مخرج إلي أيقونية هذا الظهور العابر، ولا إلي خفة ظل هيتشكوك. أنيقاً نظيفاً، أحمر الوجه كما يليق بإنجليزي محقون بجرعات كحول منتظمة، لا إسراف فيها، يخرج من المحل، يستجيب بروح أنثوية هادئة لجر كلبين صغيرين مدللين. لماذا لم يفكِّر هيتشكوك في حمل قفص صغير فيه طائران من طيور الحب، أو طائران من الكناري، وهذه الطيور الرقيقة موضع مفارقات درامية في أحداث الفيلم؟ أعتقد أن هيتشكوك عندما يخطط لكارثة تصيب البشرية، لن يورِّط نفسه في أقل شبهة عاطفية، سيخرج من المحل، بدمه البارد، وقامته القصيرة البرميلية، وكلبيه الوديعين، ويحجز علي أول تأشيرة خروج من الكوكب، وعنده الوقت، الفيلم ما زال في بدايته، ولن ينسي زوجته، فالحياة الزوجية خُلقتْ له، وبالطبع لن يحذِّر أحداً في طريقه. بالنسبة لي مَشَاهِد تجمُّع الغربان والنوارس، أصعب من مَشَاهِد الهجوم المصنوعة بالخدع المُتاحة في هذا الوقت، والمُطعَّمة بلقطات اشتباك حقيقية، مثل دخول النورس من النافذة، ومُحاولة ميتش دفعه للخلف، خارج إطار النافذة والزجاج المُهشَّم. تشعل ميلاني سيجارة بجوار المدرسة انتظاراً لكاثي شقيقة ميتش برانر، وأثناء الصمت تجتمع الغربان استعداداً للهجوم. لعب هيتشكوك بأعصاب المُشاهِدين الباحثين عن سبب شرارة بدء الهجوم، كأنْ تكون الشرارة بسبب دخان سيجارة ميلاني، أو اشتعال الحريق في محطة البنزين، لكنني أفكِّرُ أن هيتشكوك كان يمرر من تحت تلك الأسباب، أقوي مَشَاهِد ترقُّب في سينما الإثارة، أو بمعنًي آخر، لم يكن هيتشكوك معنياً بتحديد سببٍ حقيقي للهجوم، بقدر عنايته بعرض تلميحات تخدع المُشَاهِد، وتفيد هيتشكوك في صنعته الدرامية، علي سبيل المثال، تقديم مَشْهَد صامت لتبي هيدرون، تدخن سيجارة، ومع أن المَشْهَد طويل نسبياً في تقدير هيتشكوك، إلا أن جمال المَشْهَد الصامت التعبيري، محمي يتجمُّع الغربان، وكأنَّ هيتشكوك بضربة واحدة، نال الجمال التعبيري الصرف، والدراما الشعبية المتاحة للجميع. ليس هيتشكوك مخرجاً من طينة تاركوفيسكي أو بيرجمان أو أنجيلوبوليس، ومع هذا قد نجد عنده بذور تأمُّل جمالي ضامر، لا يصل إلي حدٍ ميتافيزيقي، لكنه تأمُّل في النهاية نسعد به من مخرج إثارة عملاق، وكأننا نقول: كان قادراً علي مُقارَبَة شيء آخر. في مَشْهَد النهاية العظيم، ووسط حشود الطيور، يخرج رود تايلور وشقيقته وتيبي هيدرون وجيسيكا تاندي من البيت، وبلمسة هيتشكوكية أخيرة تطلب شقيقته كاثي أخذ طائري الحب بعد الشُبُهَات الثقيلة التي طالت مملكة الطيور دون تمييز، لمسة مُناكَدَة تفصح عن دم المخرج البارد. الحديث عن المَشَاهِد الصامتة يقودنا إلي موسيقا الفيلم، وهنا المُفاجَأة، ليس هناك موسيقي كما هو مُتَعَارَف عليها. في فيلم الطيور، هناك فقط أصوات طيور مُزِجَتْ بصورة درامية، مع أصوات طبول، وضبط آلات موسيقية. تعثر جيسيكا تاندي علي جثة المُزارع، وقد جَوَّفَتْ الطيور مادة عينيه، فبقي المحجران مُنقعرين مُظلمين. تفتح الأم فمها، وتجري إلي الخارج، لا تخرج الصرخة من فمها، نسمع فقط صدًي خفيفاً لاضطراب أقدامها، الصرخة الصامتة مُؤسْلَبَة درامياً مع صرخة موتور الشاحنة في طريق عودة الأم. كان هيتشكوك حريصاً علي رش طريق الشاحنة بالماء، قبل اكتشاف الأم لجثة المُزارع، تفادياً لأقل غبار ممكن، والآن في طريق العودة لا شيء سوي صرخة الموتور العالية، وعامود الغبار الأفقي وراء الشاحنة. هناك مَشْهَدٌ صامت أيضا أكثر رعباً. ميلاني دانيالز بعد انحسار موجة هجوم الطيور علي البيت، تتوهم أنها تسمع شيئاً في أعلي المنزل، وببطء وفضول تصعد درجات السلم، وتصعد معها أرواح المُشاهِدين، تفتح بحذر باب الغرفة العلوية، تدخل الغرفة، الباب خلفها نصف مفتوح، تجد فتحة كبيرة في سقف الغرفة، الطيور هنا. يقول هيتشكوك علي لسان الطيور في حديثه مع تروفو: أنتِ الآن في قبضتنا، ونحن آتون إليكِ، لا حاجة لأن نُطلق صيحات النصر، ولا حاجة لأن تغضبي، سوف نرتكب عملية قتل صامت. ويبدأ في الحال صفق الأجنحة، وتمزيق ميلاني. يتلقي هيتشكوك بعد عرض الفيلم بفترة وجيزة، هديةً من صديق قديم، الهدية عبارة عن خمسين طائرا من طيور الكناري. يتعامل هيتشكوك مع دعابة الصديق، بأن يبعث له يومياً، من تاريخ وصول الهدية، برقيات ورسائل تصف حال طيور الكناري، لمدة ستة أشهر. يستعين هيتشكوك بسكرتيرته وزوجته، لضمان كثافة البرقيات والرسائل. طائر الكناري الحامل لرقم واحد يأكل أكثر من الباقين، طائر الكناري الحامل لرقم أربعة أهديناه لجيمس شقيق زوجتنا، برقية من جيمس لصديق هيتشكوك يعلمه فيها بشراء قفص ذهبي صغير لطائر الكناري رقم أربعة، زوج الكناري الحاملين لرقمي سبعة وثمانية غير ودودين، طائر الكناري الحامل لرقم ثلاثة عشر اعتاد الوقوف علي رأسي. في نهاية الشهور الستة ينتحر الصديق لأسباب ليستْ لها علاقة بقصة الطيور. يأسف هيتشكوك علي موت الصديق.