دفع الرئيس أوباما بثلاثين ألف جندي لتدعيم قواته في أفغانستان في نفس اللحظة التي أعلن فيها مشروعه للانسحاب في مدة عام ونصف العام. بعدها بساعات كان حلف الناتو يعلن عن إرسال 7 آلاف جندي إلي أفغانستان. القوات المرسلة إذن ليست بهدف المزيد من التمكين في البقاء ولكن من أجل المزيد من عمليات السيطرة في مراحل الانسحاب المختلفة، أي لحماية القوات أثناء الانسحاب. لقد كتبت كثيرا داخل مصر وخارجها عن أنه لا يوجد نصر أو هزيمة في أفغانستان، وفي هذه الزاوية أعدت كتابة ذلك في آخر شهر مارس الماضي تحت عنوان لا نصر أو هزيمة في هذه الميادين وكنت أقصد بها أفغانستان والعراق ليس لأنني أتمتع بعبقرية عسكرية خاصة، بل لأنني شخص تقليدي جامد الفكر إلي حد ما وهو ما يدفعني دائما للبحث عن الأساس الفلسفي عند كبار المفكرين لأي فعل بشري، ولعل الحرب والسلام في مقدمة هذه الأفعال والأساس الفلسفي ( التعريف) للحرب- كما جاء عند كلاوزفتز- هو " تدمير قوات العدو وجيوشه من أجل فرض شروط السلام عليه" وكل العمليات العسكرية التي لا تلتزم بهذا التعريف من العبث وصفها بالحرب، وبالتالي فمن المستحيل أن تنتهي بفرض شروط السلام علي العدو وهو ما يسمي بالنصر. هذا الأساس الفلسفي للحرب هو محصلة الأفكار الغربية علي طول التاريخ وعرضه. وهي أفكار لم تنزل من السماء بل صنعتها خبرة القتال الطويلة في أوروبا. بالطبع لا يوجد كتالوج أبدي للحرب يدرسه الجنرالات ويعملون بموجبه ففي كل حرب تنشب في أي مكان وأي وقت، يقومون بدراسة العمليات التي تمت للتعرف علي آخر إبداعات الإنسان في الهجوم والدفاع وتحقيق الهدف السياسي، غير أنهم جميعا يعرفون أن النصر في الحرب لا يعني قتل العدو بل فرض شروط السلام عليه. لا توجد جيوش في أفغانستان يمكن تدميرها وبالتالي فرض شروط السلام علي قادتها، هناك أفراد فقط يشكلون شعبا لم يصل بعد في مسيرته إلي محطة العصر الحديث. وإذا كانت الجيوش المعاصرة تجيد القتال فهم أكثر امتيازا في القتل، وإذا اعتبرنا جماعة طالبان تشكل جيشا فهو جيش غير قابل للاستسلام عقب كل أنواع الخسائر، إذ هي حرب خاصة بكل إنسان فرد علي حدة، ينتصر فيها عندما يموت، أو عندما يتمكن من قتل بعض أفراد العدو عندما يموت هو. الأساس الفلسفي هنا أو الفكري خاص بمرحلة تاريخية قديمة كانت الحرب فيها هي قتل كل أفراد العدو ونسائه وأطفاله وهدم مدنه وتخريب حقوله ثم الاستفادة بما يتبقي من هؤلاء لاستخدامهم كعبيد وجوار. أي أن النصر في هذا النوع من الحروب كان يعني القضاء علي العدو، وهو ما عرفناه في الحروب التي قادها جنكيزخان وهولاكو وهو أيضا ما لن يسمح به العصر الحديث بأي حال من الأحوال. الحرب علي أفغانستان إذن تنكرت للأساس الفلسفي للحرب كما عرفها الغرب، وكان من الممكن أن تطول وتطول بفعل الكبرياء الذاتي وانعدام الشجاعة اللازمة للاعتراف بأن الحرب علي أفغانستان قامت لأسباب غضبية وأنه المستحيل أن تنتهي بالنصر أو الهزيمة وأن ما ستحققه فقط هو الموت غير الضروري للجنود الأمريكيين والأوروبيين والشعب الأفغاني من جماعة طالبان القادرة كل طلعة شمس علي تجنيد المزيد من التعساء الراغبين في التخلص من حياتهم. إن الثقافة الرفيعة ليست ضمانة للحصول علي رجل دولة يتميز بالشجاعة العملية وروح المغامرة المحسوبة، فمن الممكن أن يصل مثقف ليبرالي إلي سدة الحكم ثم تمنعه ثقافته من حسم أي شيء، هذا هو ما حدث بالتحديد عندما وصل السيد محمد خاتمي إلي رئاسة الجمهورية في إيران ثم انتهت مدة رئاسته بدون تحقيق أي شيء، هذا هو المثقف الهاملتي الذي تلتهمه الفكرة وعكسها ، إن من أخطر الأمور علي رجل الدولة أن يستولي عليه التردد ونفاق الشارع أو الخوف من خصومه ورغبته الشديدة في عدم المغامرة وهو ما يسجنه في دائرة اللا فعل، أما أوباما فقد كان شجاعا عندما أصدر قراره بإغلاق معسكر جوانتا نامو وأكثر شجاعة في مواجهة ذلك الوهم الكبير وهو النصر في أفغانستان وحرصه علي تبديده، إنها إحدي المرات القليلة في التاريخ التي يثبت فيها مثقف مشتغل بالسياسة أن فضائل الثقافة الرفيعة هي ذاتها فضيلة رجل الدولة. وان المثل العليا ليست زخرفة كلامية بل هي حق أحق بأن يتبع من وجهة نظر عملية وأن يتم تنفيذها مهما كانت العقبات لصالح شعبه ودولته بالرغم من وعيه بأن خصومه وخصوم الغرب عموما سيستغلون هذا القرار للتدليل علي هزيمة أمريكا في هذه الحرب، وذلك من أجل تشجيع المزيد من النصابين التعساء وخاصة في الشرق الأوسط علي الهجوم علي أمريكا بعد ارتفاع لافتة جديدة تقول: لقد تمكن المؤمنون الأفغان الفقراء المجردون من أي سلاح من هزيمة أمريكا.. وعلينا أن نواصل عملهم إلي أن نرغم أمريكا علي التسليم بلا قيد أو شرط.