تبقي سلامة الوطن وأمنه خطاً أحمر، لا يمكن اختراقه أو تجاوزه أو العبث به، هكذا يقسم رئيس الجمهورية عند تسلمه مهام الرئاسة، وكذلك الوزراء وأعضاء البرلمان والقضاة وكل مسئول كبر أو صغر، بل ويتحمل المسئولية أيضاً حملة الأقلام كطليعة لطابور طويل وممتد يقف فيه كل من يشرف بحمل جنسية وطننا الغالي مصر. ومن هنا يأتي انزعاجنا مما نشهده من تحرك مريب لمن يلتف حول سلامة الوطن وأمنه، يخلط بين المجتمعي والديني، ويبني خطته علي استثمار الحمية وتقدم قيمة الشرف علي قائمة القيم المصرية الأصيلة ليلقي بها في أتون التطرف في حشد ومباغتة بعيداً عن ضجيج العاصمة. واستأذن القارئ في ان يتسع صدره لسردي، ففي محافظة واحدة وفي مدينتين متجاورتين بها تكررت حادثتان متشابهتان الفارق الزمني بينهما نحو شهرين ولكن النتائج اختلفت في كل منهما؛ تعرف شاب علي فتاة وتوثقت بينهما العلاقات حتي تجاوزت الأعراف المرعية أسرياً وأخلاقياً، وهو تجاوز يستنفر حمية ونخوة المصريين جميعاً ويكون أكثر وضوحاً عند أهل الصعيد، لاعتبارات تتعلق بالموروث وطبيعة المكان والبيئة. في الأولي اختفت الفتاة وتحري أهلها عن مكانها وملابسات الاختفاء وتقدموا ببلاغ للجهات الأمنية والتي استطاعت اعادتها الي أهلها، في الثانية تفاجأ أهل الفتاة بصور غير لائقة لابنتهم تنتشر عبر شاشات المحمول وشبكة الانترنت، وتوصلوا للشاب الذي قيل إنه كان وراء بثها. في الحالتين كان الرد المباشر واحداً، اذ تم الانتقام بقتل والد الشاب في الأولي وكذلك الفتاة، وايضا في الثانية قتل والد الشاب أيضاً، وتم القبض علي الجناة هنا وهناك وأمرت النيابة بحبسهم وفقاً للإجراءات المرعية اربعة ايام علي ذمة التحقيق، وتقرر مد الحبس خمسة عشر يوماً بعدها، وإلي هنا لا جديد، لكن ما تلا ذلك هو المفارقة التي تدعو للانتباه وتدق نواقيس الخطر. في الواقعة الأولي سارت الأمور في مسارها التقليدي، بينما في الثانية تنتقل ردود الفعل من قرية " أمشول " الي المدينة التي تتبعها " ديروط " لتقوم الحشود الغاضبة بتحطيم العديد من ممتلكات وبيوت الاقباط دون جريرة، تحت وابل من الشعارات التحريضية، وتكاد ان تدمر المدينة الامر الذي استوجب تدخلاً أمنياً مكثفاً وإعلان القيادات الأمنية أنهم قد يفرضون حظراً للتجول في المدينة. ولعل السؤال من أين اتت هذه المفارقة ؟، والإجابة نجدها عندما نعرف أن أطراف الحادثة الأولي كانت كلها من المسلمين، بينما في الثانية كان الشاب مسيحياً والفتاة مسلمة!!. وقبل اسابيع يتكرر سيناريو الأحداث مع اختلاف بعض التفاصيل، في فرشوط محافظة قنا، ليخرج الأمر من كونه جريمة شرف وسقطة أخلاقية نرفضها جملة وتفصيلاً، إلي حدث طائفي إجرامي يستهدف ارواح وممتلكات الأقباط وكنائسهم. استتبعه تهجير قسري لعائلات مسيحية حقناً لتصاعد الاحتقان. ولعل السؤال من أين اتت هذه المفارقة ؟، والإجابة نجدها عندما نعرف أن أطراف الحادثة الأولي كانت كلها من المسلمين، بينما في الثانية، وفي فرشوط ايضاً، كان الشاب مسيحياً والفتاة مسلمة!!. ومن هنا يأتي التوقف وطلب التدبر ببعض التعمق، لأن الظاهر علي السطح هو الجزء اليسير من اللغم المختفي تحت سطح المجتمع، والذي يقول بأن التطرف ليس أمراً عارضاً بل هو نسق مجتمعي متجذر له ينابيعه المؤسسة والمغذية، ويكشف أن العلاج بالمسكنات والترحيل المتسرع للأزمة عبر سنوات خلت لم يكن صحيحاً، وأن جلسات الصلح العرفية قد نزعت فتيل الأزمة مؤقتاً لكن سرعان ما ينبت لها فتائل جديدة، وحتي لا تستغرقنا شهوة التنظير ورحابة الينبغيات أري : اعادة الاعتبار والهيبة وبحزم لسيادة القانون بقواعده العامة والمجردة والملزمة. عدم الارتكان للحل الأمني وحده ففي هذا تحميل غير سوي علي الجهاز الأمني، فكل قدرته تنحصر في اطفاء الحريق لكنه لا يقدر علي اجتثاث الجذور. تفعيل قانون الطوارئ في مواجهة الأحداث الإرهابية والتي هي السبب الرئيسي لإعلان حالة الطوارئ، فإن لم تطبق احكامه في هذه الوقائع فعلي ماذا تطبق؟. تجفيف المنابع المنشئة للتطرف بمراجعة ما يبثه شيوخ التطرف ودعاة الإسلام السياسي، والانتباه لدعاة الميكروباصات الذين يستهدفون حشد البسطاء باتجاه التيار المتشدد عبر رحلة الميكروباص والتي قد تمتد لأكثر من ساعة يتم فيها مسح عقول المستمعين، ودفعهم لتبني نسق التطرف، وتصوير غير المسلمين علي انهم اعداء الله والإسلام. تشكيل لجنة علي اعلي مستوي من البرلمان والجهات الامنية والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية لدراسة الاسباب الحقيقية للتطرف وكيفية مواجهتها بحسم قاطع يضع مصلحة الوطن فوق المصالح الطائفية الضيقة، تقدم تقاريرها لمؤسسة الرئاسة، فملف التطرف لا يقل أهمية عن ملف مياه النيل. تعقب المؤسسات المنظورة وغير المنظورة التي تقوض الوطن لصالح تيارات متطرفة سافرة تعمل باصرار للقفز علي مقاليد السلطة. تفعيل النص الدستوري الخاص بالمواطنة في حزمة قوانين تنقي الشارع من تداعيات التطرف الذي يسعي بيننا منذ السبعينيات وربما قبلها وتنقية القوانين واللوائح والتعليمات القائمة من شبهة دعم التمييز علي اساس ديني وطائفي. نزول الاحزاب الي الشارع والتفاعل معه بجدية باتجاه مقاومة التمييز الديني، وفي مقدمتها الحزب الوطني الحاكم.