لا يمكن التعليق علي حادثة قطار العياط وتداعياتها بما فيها مغادرة المهندس محمد منصور موقعه الوزاري بالإقالة أو الاستقالة من دون الإشادة بموقف الإعلام من القضية ونقله مشاعر الناس وردود فعلها ومآسي الضحايا وذويهم إلي درجة جعلت من بقاء منصور في موقعه أمراً مستحيلاً. كثير من الزملاء والخبراء تناولوا القضية لكن كان الأكثر وضوحاً وصراحة وشجاعة الزميلين عمرو أديب في برنامج "القاهرة اليوم" علي قناة أوربت ومحمد علي إبراهيم رئيس تحرير "الجمهورية"، اللافت أن الأول يعمل في قناة خاصة بينما الثاني رئيس تحرير لصحيفة قومية، إلا أنهما اتفقا علي أن إقالة الوزير أو استقالته أمر حتمي مهما كانت الظروف أو ملابسات الكارثة، وفي السياق ذاته فإن إطلالة المهندس حماد عبد الله في برنامج "البيت بيتك" ومطالبته منصور بالاستقالة "عيني عينك" وفي مواجهة الوزير، الذي كان يتحدث إلي الناس عبر الهاتف من موقع الحادث، شجاعة تحسب للبرنامج وللضيف، ورغم أن الأزمة أكبر من بقاء أو إبعاد وزير في الحكومة إلا أن واقعة منصور هذه المرة ربما تحيي الأمل لدي الناس بأنه يمكن "الطرمخة" علي الإهمال مرة أو مرات ولكن ليس في كل المرات. عموماً لم يكن منصور أول وزير يستقيل أو يستقال بعد حادثة قطار مروعة فقد سبقه الدكتور إبراهيم الدميري الذي كان أقيل أو اُستقيل بعد حادثة قطار أخري مروعة أيضاً احترق بركابه في منطقة العياط. وليس من المستبعد أن يقال أو يستقيل وزير النقل الجديد بعد كارثة أخري جديدة طالما بقيت الظروف نفسها تحيط بمرفق السكك الحديدية. اختلف السيناريو هذه المرة قليلاً بعد الكارثة، وما أكثر كوارثنا، وبينما راح وزير النقل السابق محمد منصور ومساعدوه يدافعون عن أنفسهم باستماتة أمام هجوم الإعلام ونواب البرلمان حتي علمنا نبأ قبول استقالته فخف الغضب وإن لم يختف القلق. سبحان الله كنت كتبت الأسبوع الماضي هنا عن أحوال السكك الحديدية في مصر، ووقعت بعدها حادثة قطار العياط. وهنا لا ادعي "الفكاكة" أو "القدرة علي التنبؤ" لأن أسهل شيء علي المتابع لأحوال البلاد والعباد أن يحذر من كارثة ستقع في غضون أيام أو أسابيع أو شهور، في قطار أو طريق دائري أو محور أو عمارة أو عبّارة طالما بقي القانون لا يطبق غالباً علي كل مخالف وإن طُبق فحسب المخالف وسلطاته وقدراته. تقع الكوارث في مصر وتتكرر ما دام الإهمال سائداً دون عقاب والمسئول "مسنود" دون حساب والمواطن "غلبان" و"ضحية" و"محتاج" دون رحمة أو شفقة أو جواب. تقول الحكمة: "كذب المنجمون ولو صدقوا"، ولكن في مصر لا يحتاج الأمر إلي التنجيم فعندما نعلم أن وزارات في الحكومة تنفق علي نفسها لتلميع وزيرها والمسئولين فيها، وتطل عليك عبر كل القنوات الأرضية والفضائية إعلانات تحملك نتيجة سوء الخدمة فلابد أن تدرك أن الانهيار والقصور تعدي سوء الخدمة إلي سوء التصرف وأن سفه الإنفاق من المال "السايب" حالياً العام سابقاً تجاوز كل الحدود وعليك أن تفهم لماذا يتشبث الوزير أو المسئول بمكانه حتي لو احترق الناس إلي أن يطلب منه الابتعاد. اللافت أن الجميع انشغلوا بالحادثة وكأن باقي الخدمات التي يفترض أن تقدمها وزارة النقل كانت عشرة علي عشرة، وأنه لولا حوادث القطارات لقلنا لمرفق النقل "يا أحمر الخدين". واللافت أكثر أن الإهمال وعدم المبالاة لا يتوقفان عند وزارة النقل فقط وإنما يمتدان ليشملا وزارات أخري وإدارات عدة في الدولة وانتقلا بفعل العدوي إلي الناس في كل مكان. قد يمثل رحيل منصور عن موقعه الوزاري رسالة تحذير إلي كل مسئول يوهم الناس بأن الأحوال عال العال أو في طريقها لأن تكون كذلك، وأن العيوب والأخطاء و"البلاوي" سببها المواطن مستخدم الخدمة أو متلقيها، لكن الأهم أن يطبق مبدأ الثواب والعقاب حتي من دون كوارث. ليس مهماً البحث في ما إذا كان منصور استقال أو أقيل فالمهم المغزي من ابتعاده رغم تشبثه بشدة أمام اجتماع لجنة النقل والمواصلات في البرلمان، وكذلك حينما تحدث إلي برامج تليفزيونية، وأكد تحمله المسئولية دون أن يفرط في موقعه لأن لديه برنامجاً يكمله وخططاً سيعمل علي استكمالها. المهم الآن العمل علي تفادي كارثة جديدة، وإذا كان الإعلام المكتوب والمرئي سجلا نصراً ونجاحاً وتميزاً في التعامل مع الكارثة، فإن تلك السابقة وضعت علي الإعلاميين والصحفيين والخبراء المميزين أمثال أديب وإبراهيم وعبد الله مسئولية مهنية أعلم أنهم يدركونها أكثر من بعض المسئولين الذين لا يعرفون معني المسئولية ... السياسية.