من المعروف أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بها آلاف الجامعات منها الحكومية والأهلية والخاصة وتأتي أمريكا علي رأس الدول في عدد الجامعات المدرجة ضمن المائة أفضل جامعة علي مستوي العالم حيث بلغ عدد جامعاتها في هذه القائمة 35 جامعة ورغم هذا التفوق والتميز الواضح فإن الإدارة الأمريكية مازالت تنظر بحذر إلي الحالة التعليمية وتنادي بضرورة العمل علي تطويرها وتسعي لإزالة كل معوقات هذا التطوير. لقد قضيت في بلاد العم سام حوالي خمس سنوات في ثمانينيات القرن المنصرم طالبا وباحثا بإحدي جامعاتها جامعة نيويورك ببفلو محاولا خلال الشهور الأولي التكيف مع نظام تعليمي لم نعتد عليه. لقد حرصت علي تدوين انطباعاتي وتجاربي لعلها تساعدنا في تحديد عوامل القوة في النظام التعليمي لدولة متقدمة. لم تمر سوي دقائق قليلة علي دخول مبني الجامعة بمدينة بفلو حتي تسلمت البرنامج الدراسي للتخصص الذي اخترته والتقيت المشرف الأكاديمي لمساعدتي في اختيار المواد الدراسية التي تعتبر ضرورية لاستكمال البرنامج الدراسي ثم اطلعت علي جدول المحاضرات قبل الدراسة بأسبوع محددا به موعد ومكان كل محاضرة وقد تلاحظ أيضا أن كل أستاذ يتولي تدريس المواد التي تقع في نطاق تخصصه الدقيق ولم نسمع قط عن صراع قد نشب بين الأساتذة حول مواد الدراسة لقد فوجئت بأن نظام التدريس لا يعتمد علي التلقين بل يشجع علي المشاركة في المناقشة والتحليل والنقد كما أن نظام تقييم الطالب يعتمد علي كتابة ورقة بحثية توضح القدرة علي تبني وجهة محددة وتقديم الأدلة التي تدحض الآراء الأخري وهذه مهارات نفتقدها في نظامنا التعليمي الذي يقوم علي الحفظ والتلقين. لقد حاولت التعرف علي السياسة التي تتبعها الجامعات الأمريكية مع خريجيها النابغين حيث تبين أن هذه السياسة تتمحور حول عدم تشجيع الطالب الذي يحصل علي درجة الدكتوراه علي العمل مباشرة بذات الكلية التي تخرج فيها كما تبين لي أن الجامعة لا تتردد في مطالبة خريجيها بإثبات قدراتهم التدريسية والبحثية في جامعة أخري أولاً. توقفت لحظة متأملا السياسة التي ظلت جامعاتنا تنتهجها لفترة طويلة من الزمن حيث تفضل الجامعة خريجيها حين تتوفر وظيفة من الوظائف ولعل أهم النتائج المترتبة علي هذه السياسة هي أن يلتحق الطالب في بلادنا بجامعة من الجامعات ويظل يدرس بها حتي يحصل علي شهادته الجامعية الأولي ليعين معيداً بالكلية التي تخرج فيها ثم يلتحق بالدراسات العليا بذات الكلية حتي يحصل علي درجتي الماجستير والدكتوراه والملاحظ أن الطالب يظل يتتلمذ علي يد نفس العدد من الأساتذة ويكاد لا يعرف غيرهم قد يقضي عضو هيئة التدريس في جامعاتنا أكثر من ثلاثين عاماً في موقعه حتي يحال إلي المعاش ويعين أستاذاً متفرغاً في سن السبعين. لقد سنحت لي فرصة زيارة جامعة نيويورك ببفلو بعد مرور سبع سنوات علي تخرجي حيث توجهت إلي القسم الذي تخرجت فيه لاكتشف أن كل أعضائه قد رحلوا إلي جامعات أخري لقد استطعت أن اقتفي أثر أعضاء لجنة الإشراف علي رسالة الدكتوراه من خلال شبكة الإنترنت حيث تبين أن المشرفة علي رسالتي اتجهت إلي جامعة سيمون فريزر في كندا بينما اتجهت المشرفة الأخري إلي جامعة نيومكسيكو وفي ظني فإن هذا التجديد والإحلال يؤثر بالإيجاب علي ديناميكية وحيوية أقسام الكلية. من المؤكد أن العامل الرئيسي في تجديد الهياكل التدريسية في الجامعات الأمريكية مرده إلي أن الأساتذة يعملون وفق نظام العقد المحدد الأجل، قد يوقع الأستاذ عقدا لمدة عام قابل للتجديد شريطة أن يؤدي أداء متميز وهذا التميز في الأداء يتحدد وفق معايير صارمة للتقييم منها آراء الطلاب في أداء الأستاذ والمنهج الذي يتولي تدريسه ومقدرته علي نشر أبحاث مؤثرة في مجال تخصصه وبراعته في الحصول علي مشاريع بحثية ممولة من الهيئات القومية وللجامعة كل الحق إذا رأت عدم تجديد العقد مع الأستاذ الذي يتقاعس عن تنفيذ المهام الموكلة إليه وعلي رأسها إجراء الأبحاث العلمية وما يؤكد صدق مقولتي هذه أن الأساتذة الذين تتلمذت علي أيديهم ناهزوا الستين عاماً ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يتوقف عن إجراء الأبحاث ولم يهتم أي منهم بالمناصب الإدارية كما الحال في جامعات الدول النامية. أتذكر عندما كنت طالبا في جامعة نيويورك ببفلو حدث أن أصبح منصب رئيس القسم شاغراً نظراً لانتقال رئيس القسم إلي جامعة أخري. الغريب أن أعضاء القسم وكلهم أساتذة لهم باع كبير في تخصصاتهم رفضوا تولي مسئولية إدارة القسم وسعوا لانتداب أستاذ من جامعة أخري للقيام بهذا العمل والسبب الذي عرفته فيما بعد هو أن كلا منهم لديه ما يشغله.