لم يكن مبررا أن يعتذر رئيس تحرير صحيفة الرياض تركي السديري عن افتتاحيته التي طالب فيها بعودة لبنان إلي سورية، فهو لم يعتمد- كما رأت المعارضة اللبنانية من باب الشماتة- مبدأ من بيت أبي ضربت لكنه كان يقرأ في كتاب الغالبية المفتوح الذي رفع شعار أم الصبي منذ سنوات إلي الدرجة التي أوصلت كاتبًا سعوديا إلي المناداة بعودة الصبي إلي أمه. السديري قال إنه أخطأ في التصور والتعبير مغلقًا الباب أمام أي نقاش لافتتاحيته التي لا تحتاج عمليا إلي نقاش لا في التصور ولا في التعبير، ومع ذلك فهو حر في قول ما يشاء.. واللبنانيون معنيون أكثر برصد تجربتهم السيادية ونتائجها التي أدت إلي أن يسمعوا من معسكر الاعتدال العربي صوتا يدعوهم إلي نسف كيانهم لا إلي التخلي فحسب عن شعاراتهم في الحرية والاستقلال. بعد اتفاق الطائف كان رأس السلطة السياسية في لبنان الرئيس إلياس الهراوي يتباهي دائما بمقولة إن اللبنانيين لم يبلغوا سن الرشد بعد وأن الصبي مازال في حاجة إلي رعاية أمه، وكانت أمه قد أجرت سلسلة تفاهمات وصفقات واتفاقات شرعية وغير شرعية مع والده وزوجته الجديدة وأعمامه وأخواله تفردت بموجبها في تدبير أموره كي لا ينفسد أخلاقيا لأن كثرة المربين تنزع الصبي، وكان أشقاء الصبي من والديه أكثر من ساعد علي تكريس مقولة عدم البلوغ من خلال خلق وضع داخلي تأزيمي سياسيا وأمنيا يكرس الحاجة إلي تدخل الأم بالنصيحة والموعظة الحسنة أو بالقسوة المطلوبة أحيانا رغم تعارضها مع أساليب التربية الحديثة. وعندما تصبح الكلمة العليا مطلقة للأم، لابد أن تكافئ أولادها الذين يسهلون مهمتها وتجعلهم أسياد البيت الحقيقيين، ولو أضفت علي هذا التسيد بعض الإضاءات الوهمية في نوافذ المشاركة، هكذا تم التجديد لرئيس الجمهورية صاحب نظرية عدم البلوغ في مقابلة صحفية أجراها الرئيس الراحل حافظ الأسد مع جريدة الأهرام المصرية، وهكذا تم التجديد لرئيس الجمهورية الذي تلاه بمقابلة مع قناة الجزيرة القطرية أجراها الرئيس الحالي بشار الأسد، وفي التجديدين كانت السلطة الفعلية في لبنان خارج نطاق الرئاسة أو الرئاسات.. كانت في يد الجهاز الأمني السوري- اللبناني الذي واكب عمل المقاومة ووظف تحركها إقليميا علي جبهة المفاوضات مع إسرائيل وضبط تحركها علي إيقاع الدور الإقليمي المطلوب للدولة الأم كي توسع رعايتها شرقا وغربا. بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، الرجل الذي كان يمشي بين الألغام لنقل لبنان من المزرعة إلي الدولة، انتفضت غالبية اللبنانيين من أجل الحرية والسيادة والاستقلال، كانت قوة التعبير مذهلة لكن أشياء كثيرة أضعفت هذه الانتفاضة قد يكون أهمها علي الإطلاق عدم تقدير حجم قوة شقيق الداخل علي مساندة شقيق الخارج، وعدم تصديق أنه يمكن أن يعطل البلاد ويشلها ويعيد اللبنانيين إلي مرحلة عدم بلوغ سن الرشد والحاجة الدائمة إلي الرعاية الخارجية. في كل مرحلة من المراحل التي تلت انتفاضة الاستقلال كان أركان الغالبية السياسية يقولون إنهم لا يمكن أن يواجهوا تحرك المعارضة السياسي والأمني بالحدة نفسها لأنهم أم الصبي، وهذا الكلام صحيح جدا إذا كان بهدف تراكم مشتركات وطنية علي ثوابت كفيلة بنهوض لبنان وانطلاقه، وصحيح أكثر إذا كان الشعار جنب الغالبية ولبنان دفع ثمنًا كبيرًا، لكن ما حصل فعليا هو أن الانقسام الوطني صار انقسامات وأن الثمن الذي كانت الغالبية تخشي دفعه دفعت أكثر منه، تذكروا فقط تصريحات قياديي 14 آذار المتخوفة من انتخاب رئيس للجمهورية بنصف أعضاء البرلمان زائد واحد رغم التأييد الداخلي والخارجي الواسع لهذه الخطوة، يومها قالوا إن ذلك يمكن أن ينهي مبدأ الشراكة الوطنية ويمكن أن يؤدي إلي عمل مسلح ضد العاصمة، لم يحصل الانتخاب ومع ذلك اجتاح مسلحو المعارضة بيروت.. ووضع المنتصرون شروطهم علي الطاولة بالنسبة إلي الشراكة: الاستلحاق. وأسوأ ما في سياسة أم الصبي أنها أدت إلي ضرب مقاومات ومبادئ دستورية تمس بنية النظام نفسه وتعيد إنتاجه، سواء تعلق الأمر بموضوع الحكومات وتشكيلها وقدرة أي طرف علي تعطيلها أو تحويلها إلي مجلس إدارة للفيدراليات الطائفية، أو تعلق بإقفال البرلمان ومنع انتخاب رئيس للجمهورية، أو بتفريغ العملية الديمقراطية الانتخابية من مضامينها وتحويلها إلي فلكلور.. كون السلطة تأتي من حامل البندقية وحلفه الإقليمي وليس من حامل التفويض الشعبي وبرنامجه الوطني. رئيس تحرير الرياض تركي السديري أخطأ مرتين: الأولي عندما دعا إلي إعادة الصبي إلي أمه وتصحيح سايكس بيكو النسبة إلي لبنان وسورية فقط كونه لا يستطيع أن يحكم نفسه، والثانية عندما اعتذر للبنان عن افتتاحيته بينما كان يجب أن يعتذر من سورية لأن ما فعله لها حلفاؤها في لبنان وقواتها خارجه أفضل ألف مرة مما كان يمكن أن تفعله وقواتها في لبنان، حصدت المكاسب تلو الأخري وهي تتفرغ لملفاتها الأخري بينما لبنان في أيد أمينة، تخيل يا سيدي رئيس التحرير لو أن القوات السورية هي التي اجتاحت بيروت في 7 أيار، هل كان بعض العرب والعالم اعتبر الموضوع خلافا داخليا؟ لو أن سورية ولبنان دولة واحدة.. هل كان سيخطف الأجنبي في لبنان ويتحرر في سورية؟ لو أن سورية ولبنان دولة واحدة.. هل ستشتعل الجبهة السورية لعبور الخط الأزرق أو إطلاق صواريخ مجهولة المصدر؟ هل سيتم التهويل علي المواطن السوري- اللبناني بالأصوليات السنية وتفجيرات القاعدة ويؤسس شاكر العبسي عصابته في مخيم اليرموك ويطلق القذائف علي الجيش السوري؟ هل وهل وهل؟ أخطأ تركي السديري في التصور والتعبير، وأخطأ اللبنانيون في كل شيء إلا في.. التعبير.