مبشرا بأن الحرب القادمة ستكون حرب "أفكار" لن تحسم نتائجها سريعا، وأخطر ما يميزها أن أسلحتها مازالت ناقصة، ومن أمثلتها "الحرب علي الإرهاب"، يري هاني نسيرة مؤلف كتاب "أزمة النهضة العربية وحرب الأفكار" أننا نعيش منذ نهايات القرن التاسع عشر عصر "النهضة المتوترة" أو "المعوقة" أو "التائهة" عربيا، سببها هيمنة العقلية السحرية في التفكير العربي وشعارات "نظرية المؤامرة" أو"الديمقراطية" أو "الوحدة" أو "الحاكمية". يقول المؤلف: "بعد أن اتفقت التيارات الإصلاحية الإسلامية التي مثلها الأفغاني ومحمد عبده وكذا التيارات الليبرالية، علي أن الاستبداد وغياب الديمقراطية هو أولي أزمات هذه الأمة، تورط معظم رموز الإصلاحية والليبرالية في آن واحد في التدشين لمقولة المستبد العادل". وعليه فعند المؤلف "الحداثة في عالمنا العربي دوائر مغلقة من كلام وأفكار وأسئلة تستعصي علي الإجابة أو الحسم"، ولهذا نجده يستخدم تعبير "الوعي العربي المبطّن"، وكانت أبرز دعواته "دولة القانون والمواطنة هي الضمان الوحيد لحفظ الأوطان، ومشروع الحداثة الذي لم ينجز منذ مائتي عام في بلادنا". الكتاب الذي يتخذ عنوانا فرعيا "قراءات في الخطاب العربي المعاصر" يقف في فصل بعنوان "هل فهمنا هنتنجتون؟! صدام الحضارات.. قراءة جديدة" موقف المدافع عن أكثر النظريات جدلا ويعيد قراءتها من جديد، صحيح لا ينفي نسيرة أن الرجل ينطلق من أمريكيته، إلا أنه ليس مع الرأي القائل بأنه قصد خدمة الأمريكيين وإمدادهم بأساس نظري لسياساتهم في العالم. وفي المقابل يري أن صمويل لم يكن داعية لحرب بدائية بين الشرق والغرب، بل حرب بالمعني التنافسي، ومفهوم الحضارة الذي يعنيه هو الهويات الثقافية الكبري، وما قاله يتقاطع كلية مع نظرية أخري هي "نهاية التاريخ" لفوكوياما، دلالة علي أن العولمة ستكون فاتحة صراعات لا تنتهي، ويذهب نسيرة إلي أبعد من ذلك، حين يشير إلي أننا سنتذكر ابن خلدون حين نتابع هنتنجتون في تأسيسه لمسار الصراع، الذي قد يعني في جانب منه التنافس في العمل خصوصا في مجال السياسة، أما ما يتعلق بحديث هنتنجتون عن الإسلام، فكان من قبيل القوة المحتملة للصدام مستقبلا، ويري نسيرة أنه كان لديه حق، وهو ما أكده له فيما بعد بن لادن والقاعدة وأحداث 11 سبتمبر. في جزء من الكتاب، يتتبع المؤلف مسار التيارات الفكرية المعاصرة، ومنها ذلك "التيار الهجين" أو التوفيقي، ويمثله حسن حنفي في خطاب اليسار الإسلامي، ويعمل علي استعادة الدين كمرجعية للتقدم والنهضة، ويوفق بين التصورات الإسلامية وبين الأفكار العلمانية، ويشبهه نسيرة بالفرق الكلامية القديمة، بسبب إفراطه في التأويل والتفسير. ثم يرصد في جزء آخر التحولات والمراجعات التي أصابت تيارات الفكر العربي المعاصر، فوفق أبسط الأمثلة أصبح كثير من دعاة الديمقراطية وأبرز المدافعين عنها، أكثر الناس استياء منها لأنهم اكتشفوا أنها لم تأت إلا بأعدائها، تلك التحولات اتخذت قوالب الاشتباه أحيانا أو عدم الحسم احيانا أخري، أو نتجت عن ضعف التأسيس النظري أو المحدودية النسبية كما يوضح نسيرة الذي يري أن بعض تلك التيارات الإصلاحية لم تتحوّل بفضل ترددها هذا إلي "ظاهرة"، ويتتبع أثر ذلك التردد أو "التبرؤ" في أفكار كل من قاسم أمين وعلي عبد الرازق وحتي طه حسين، وكذلك العقاد الذي يصفه بالشخصية المركبة التي تزدحم فيها كل نوازع الحياة، ويحلل أيضا الشكل الفلسفي للتحول عند عبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود، أو الشكل النقدي العنيف للأفكار السابقة مثلما حدث مع سيد قطب، وأخيرا تحولات ذات خلفية عصرية، سعت لاكتشاف حوامل عصرية للثقافة الإسلامية الدينية، وسار عليها طارق البشري وعبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة. رافضا لمقولة "كبوة الإصلاح" في العالم العربي، لأنها من أعراض داء "الأيقنة" والتعميمات، يتعرّض نسيرة للتحوّل الذي أصاب مفهوم الجهاد في الإسلام من دعوة ورحمة إلي انقلاب علي التاريخ، وتشويهه علي يد رشيد رضا وحسن البنا، ويقول المؤلف إن الأمر كان مبشرا بصدام حضارات وأديان وطوائف سابق لصدام الهويات الذي أتي به هينتنجتون، تدليلا علي أن التشويه الأكبر لمفهوم الجهاد تحقق بأيدي المسلمين أنفسهم "هكذا يكون العالم حربا مؤبدة بين الإسلام بتصور هذه الجماعات وبين غيرهم"! في فصل بعنوان "صدام الحضارات إسلاميا"، يعرض المؤلف للجهود المسلمة التي سبقت هينتنجتون في تأسيس صدام الحضارات إسلاميا، ووجدت في المسلمين أنفسهم أعداء لأنفسهم، مثل تأكيد المدعو أبي بصير الطرسوسي في كتاب "صراع الحضارات مفهومه وحقيقته وواقعه" علي أن الصراع الحضاري والثقافي هو الحقيقة والقانون المؤبد بين المسلمين وغيرهم من المسلمين أيضا لكن أصحاب مذاهب أخري! وكذلك صالح بن سعد الحسن صاحب كتاب "شهادة الثقات" ومنهم أسامة بن لادن، الذي يدعو فيه إلي ضرورة البراء من الحكام والحكومات المسلمة! وأخيرا فارس آل شويل الزهراني الأزدي - وهو الذي يقف عنده المؤلف طويلا - في كتاب "العلاقات الدولية في الإسلام" الذي ينقل عن سيد قطب قوله الصدامي "ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلي قسمين لا ثالث لهما: الأول دار إسلام، والثاني دار حرب"! وأخيرا أتباع بن لادن المؤمنين بالفسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، تلك المقولة الشهيرة التي أعلنها في خطاب بعد أحداث 11 سبتمبر.