.. وكما في منهج القانون هناك شكل وهناك موضوع. وفي قضية اليوم التي أتناولها من ناحية الشكل أعلق علي ما قرأته في صحف مصرية وتركية حول موضوعات أري أنها متقاربة.. وتستوجب التوقف. في مصر، لفت نظري مقال كتبه الزميل عبدالعظيم حماد في جريدة "الشروق" بعنوان (متي يتحدث أبوالغيط مثل أوغلو؟).. كتبه بعد أن جلس علي مائدة إفطار وزير الخارجية التركي في القاهرة.. ومضي إلي أن استخلص ما معناه أن تلك الجلسة التي أجراها الوزير أوغلو مع الصحافة المصرية تعبر عن رغبة في التواصل.. ومعلقًا (أن الدبلوماسية المصرية لا ترحب بالمواجهات خاصة مع صحفيين أجانب). وما أدهشني أن الزميل قد أشار إلي مجريات تمت في زيارة الرئيس الأخيرة إلي واشنطن.. حيث كان الزميل موجودًا ومتابعًا.. ولفت نظري أنه يقول إن أحدًا من المسئولين لم يلتق أيا من ممثلي الإعلام الأمريكي.. باستثناء حوار الرئيس مع تشارلي روز المذيع الأمريكي المعروف.. وهي ملاحظة لافتة من الأستاذ عبدالعظيم، خاصة أن السفير سليمان عواد المتحدث باسم الرئاسة باعتبارها زيارة رئاسية قد عقد مؤتمرين صحفيين أحدهما خصص للصحافة الأمريكية دون غيرها.. وفيه انتقد "الواشنطن بوست" علي موقفها الذي يقوم علي معلومات غير دقيقة بشأن المدونين المصريين.. هذا بالطبع بخلاف المؤتمر الصحفي للرئيسين أوباما ومبارك وفيه علي ما أظن كانت الصحافة الأمريكية موجودة بقدر يفوق الصحافة المصرية. وفي الشكل أيضًا لا أعتقد أن تلك الملاحظة دقيقة بخصوص قدرة الدبلوماسية المصرية علي مواجهة الصحافة الأجنبية أو المحلية.. أنا شخصيًا حضرت من قبل لقاء ممتدًا لأبي الغيط مع عشرة من أهم كتاب الصحافة الأمريكية في واشنطن وله في العام الماضي حوار مطول مع إحدي المحطات الإذاعية الأمريكية امتد لفترة من الوقت. المشكلة ليست في المواجهة مع الصحافة الأجنبية.. خصوصًا إذا لم تكن لها مواقف مسبقة.. المشكلة في منهج الصحافة المحلية المستعدة لأن تمتدح أي وزير خارجية لدولة أخري.. وأن تري في أي سياسة خارجية لدولة أخري ما يستوجب الدعاية وتفعل النقيض تمامًا مع دبلوماسية بلدها وكل سياستها الخارجية.. وأعتقد أنه لو حظي وزير خارجية مصر بمثل ما حظي به وزراء خارجية إيران وسوريا وتركيا في جريدة "الشروق" لاختلفت تحليلات كثيرة. ما علينا. ننتقل إلي الموضوع.. وفيه اشير إلي أن البروفيسور أوغلو الذي حظي بقصائد مديح في مصر ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لا يحظيان بهذا الثناء في الصحافة التركية.. بل يواجهان ومعهما السياسة الخارجية التركية برمتها هجومات انتقادية متنوعة.. لم تر في تلك السياسة ما يحقق صالح تركيا.. الممتدحة كثيرًا في مصر. عنوان الانتقادات الأشمل في تركيا هو أنها- السياسة الخارجية التركية تتسم بالتضارب في الرؤي والتحركات.. وأوجز فيما يلي الملاحظات الأساسية علي الأداء التركي الخارجي في قلب تركيا: - هناك تضارب كبير.. فمع التسليم بأهمية أن تركيا قامت بأربع جولات حوار غير مباشرة بين إسرائيل وسوريا في العام الماضي إلا إن الإعلام التركي يري أن الموقف المنحاز من تركيا إلي حماس خلال حرب غزة قد أدي إلي شعور تل أبيب بالتحيز للمواقف العربية ما دعا تل أبيب إلي أن تعلن أنها لا ترغب في استئناف مفاوضاتها مع سوريا عبر تركيا (طبعا نحن أصحاب مصلحة في هذا التحيز فرضًا.. ولكني هنا أرصد أحد اوجه الانتقاد). - أدت سياسة تركيا الهادفة إلي فتح قنوات اتصال مع الفصائل والقوي العراقية المختلفة إلي نشوء توتر مع حكومة نوري المالكي خاصة بعد تسريب معلومات بخصوص أن تركيا لعبت دورًا وسيطًا في استضافة حوار بين الفصائل السنية والولايات المتحدة في اسطنبول. - هناك تضارب رهيب في التعامل مع ملف الطاقة ما بين موقف تركيا كشريك في مشروع خط أنابيب نابوكو الذي يهدف إلي كسر الاحتكار الروسي لسوق الطاقة الأوروبية وبين موقف تركيا من خط أنابيب (تيار الجنوب) الذي تتبناه تركيا لضرب خط نابوكو. - إن توسيع التحركات التركية في ملفات مختلفة قد أثر عليها من حيث ضعف المضمون.. فهذه التحركات لم تنجم عنها نتائج ملموسة.. ففي ملف لبنان تحركت تركيا بلا جدوي ولم تخرج تحركاتها عن كونها دعاية إعلامية. ولم تحقق تركيا أي شيء من تحركاتها في ملف الأزمة الروسية الجورجية وخلاصته أن كل الأطراف صارت تنتقد الموقف التركي بعدم الوضوح والحسم. - تري الانتقادات أن تلك التحركات إنما هي تصب في صالح حزب العدالة والتنمية وتؤثر في العلاقات التركية مع حلفاء أساسيين مثل إسرائيل وحلف الاطلنطي والولايات المتحدة.. وبالتالي فهي ينظر إليها علي أنها سياسة حزبية لا قومية. هذا هو مجمل الملاحظات المسكوت عنها في الصحافة المصرية عن السياسة التركية.. والتي لا يمكن تغافلها حتي لو كنا نختلف معها.. ومن المدهش أن ذلك لا يتم تناوله أو التعرض له ولو علي سبيل الموضوعية واستكمال الصور أمام القراء.. والأهم أن أردوغان الذي يقود تلك السياسة الخارجية وينفذها أوغلو ويشير بها عليه.. لا يقوي علي أن يواجه الانتقادات في الإعلام التركي سواء لسياسته الداخلية أو الخارجية.. وليس كما يقولون قادرًا علي المواجهة.. هذا أو ذاك. وللتدليل علي الاستنتاج الأخير أرجو العودة إلي تقرير نشرته جريدة "نيويورك تايمز" قبل أيام وفيه تشير إلي أن رجب طيب أردوغان هذا الملاك البريء قد دفع مصلحة الضرائب التركية إلي فرض غرامة قدرها 2.5 مليار دولار علي مجموعة إعلامية اسمها (دوغان هولدنج) معروفة بانتقاداتها المستمرة لحكومته عبر صحف ومحطات متنوعة أبرزها (سي إن إن التركية). الأمر الذي دعا الاتحاد الأوروبي للإعراب عن قلقه بخصوص حرية الصحافة في تركيا.. والخطوة التي قد تدفع تلك المجموعة الإعلامية إلي الإفلاس. فإذا كان الحال كذلك.. نرجو من صحافتنا العامرة أن تنظر إلي الصورة من جميع جوانبها.. وألا تنبهر بمجرد ترديدات أدلي بها وزير خارجية علي مائدة إفطار.. مع كامل الترحيب به في مصر.. وهو بالتأكيد سوف يستوعب أن هذا حوار بين الصحافة وليس لتوجيه اللوم له. Email:[email protected]