إن كتاب القرضاوي فقه الجهاد الذي اشتمل علي جزئين تجاوزت فيهما الصفحات ألفاً وأربعمائة صفحة يحتاج مجهوداً كبيراً لأن الشيخ يسير بأسلوب أهل الكلام وهو أسلوب الإخوان المسلمين أي الكلام المسهب الذي تكثر فيه العبارات والألفاظ بغير داعٍ مما يشتت الأذهان ويصرف القارئ عن لب الأمر المطروح مما يساعد علي تسريب أفكار سقيمة ونتائج وخيمة كما اشتمل الكتاب علي حق يتخلله بعض الباطل هذا البعض هو أخطر ما في الكتاب كما بينت في المقالات السابقة وكما سأبينه فيما سيأتي. يقول القرضاوي في ص 784 ج2: ..وكما ينسحب أعداء المسلمين من المعركة بغير قتال.. قد يحدث هذا الانسحاب من المسلمين أنفسهم يقتضيهم الموقف أن ينسحبوا من مواجهة العدو.. إبقاء علي المسلمين أن يخوضوا معركة فناء مع عدو أكبر منهم.. قلت: إذا كان القرضاوي يعتقد ذلك الآن فلماذا انتقد الإخوان وغيرهم موقف السادات من الثغرة في حرب العاشر من رمضان وإيثاره وقف الحرب لمصالح يراها كولي أمر؟ لأنه وضع خطته لمحاربة يهود وليس أمريكا وإذا كان هذا فقه القرضاوي فلماذا نفخوا في حماس ومازالت تصر حماس علي الخيار العسكري مقابل قوة لا قبل لهم بها، إنه التناقض الإخواني بين ما يدعون من إسلامية أطروحاتهم وبين حال واقعهم المر. ويقول القرضاوي في ص 785 ج2: وقد تنتهي المعركة بين المسلمين وأعدائهم بالصلح والمسالمة إذا جنح إلي ذلك، وطالب المسلمين بالصلح والمهادنة وكف الأيدي عن القتال ومعني الهدنة كما قال ابن قدامة: أن يعقد أي الإمام لأهل الحرب عقداً علي ترك القتال مدة بعوض أو بغير عوض وتسمي: مهادنة وموادعة ومعاهدة وذلك جائز بدليل قوله الله تعالي: (براءة من الله ورسوله إلي الذين عاهدتم من المشركين) التوبة: 1 وقال سبحانه وتعالي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله إنه هو السميع العليم) الأنفال: 61 وروي مروان والمسور بن مخرمة: أن النبي - صلي الله عليه وسلم - صالح سهيل بن عمرو ممثل قريش بالحديبية علي وضع القتال عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتي يقوي المسلمون ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين: إما بأن يكون بهم ضعف عن قتالهم وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح.. بل ذهب الإمام ابن القيم إلي أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم علي المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه ففيه دفع أعلي المفسدتين باحتمال أدناهما وهذا ذكره استنباطا من فقه صلح الحديبية وما فيه من فوائد فقهية، وإذا كان بعض الفقهاء لا يجيزون المعاهدة الصلح مع المشركين لأكثر من عشر سنين فهناك من أجاز الهدنة لما هو أكثر من ذلك وفق مصلحة المسلمين وهذا ما أرجحه أ.ه. قلت: أخيرا أقر الشيخ القرضاوي بمشروعية الصلح مع الكفار الأعداء لمصلحة المسلمين وهذا منوط كما قرر القرضاوي - ص 785 - للإمام أي للحاكم وليس للجماعات أو الهيئات أو أصحاب العمائم، إنما كل هؤلاء أهل مشورة الحاكم ولكنهم ليسوا أهل القرار واتخاذه ومع ذلك فمشورتهم غير ملزمة للحاكم إذا رأي المصلحة خلاف ما قرره أهل الشوري ومادام الشيخ القرضاوي قد اعترف بما ذكر وأقر به شرعاً فلماذا كان استهجانه لمعاهدة كامب ديفيد؟ ولماذا انتقد فتوي الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حينما أفتي بجواز الصلح مع الأعداء؟ وقد يعذر الشيخ القرضاوي أنه في السابق لم يوفق في فتواه ثم ظهر له الحق الآن ولا يعيب العالم أن يفتي فتوي ثم يغايرها بفتوي أخري لاحقة، وهذا صحيح لكن السؤال لماذا لم يصرح القرضاوي بأنه تراجع عن فتواه في كامب ديفيد؟ بل لماذا لم يذكرها أثناء سياقه في الحديث عن جواز عقد المصالحات والمعاهدات مع الأعداء؟ ولماذا يشجب الإخوان معاهدة كامب ديفيد؟ وإذا كان الشرع قد أجاز ذلك فلماذا يمتنع الإخوان عن التزام الشريعة التي يدعونها أليس هذا الحكم مما أنزل الله؟ وقد التزمه الحاكم في مصر ولم يلتزمه الإخوان فهل يكفر الإخوان، وفق مقرراتهم الخاطئة لفهم الآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).. الآية تلكم الآية التي يشهرونها في وجه الحاكم ويروجونها بين الجماهير لتكفير الحاكم أليس هذا منطق الإخوان المسلمين ومن سار علي دربهم من الجماعات الحزبية الأخري كالجهاد والمدرسة السلفية المزعومة بالإسكندرية أآلان فقه القرضاوي هذه المسألة بعد خراب الديار؟ ولنا أن نتخيل كيف سيكون حال مصر لو التزم الحاكم السادات فتاوي القرضاوي والإخوان في شأن الصراع مع يهود؟ فالحمد لله أن وفق الله وأنار بصيرة السادات ومبارك فالتزما الشرع في هذه القضية الخطيرة لما فيه صالح العباد والبلاد. وإذا كان الأمر كما وضح الآن في فقه القرضاوي وهو أحد أعلام الإخوان.. ألا توجه بفقهه هذا لحركة حماس الفلسطينية ناصحاً إياهم بهذا الفقه الشرعي؟ أم ستبقي الشريعة في وادٍ وحماس والإخوان في وادٍ آخر؟ بل يزيد القرضاوي الأمر وضوحاً بشيء آخر ص 788 ألا وهو: وقوله وتوكل علي الله أي صالحهم وتوكل علي الله فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح الخديعة ليتقوا ويستعدوا فإن حسبك الله. ثم يقول القرضاوي معنوناً في ص 790: جواز الصلح مع العدو بطلب المسلمين.. بل يصل فقه القرضاوي الذي تأخر كثيراً إلي مدي أبعد يحتاج أن تعقد له ندوات للعتاب وللتوضيح فماذا قرر القرضاوي؟ يقول في ص 820: فماذا يفعل المسلمون حين تجري عليهم الأقدار وتدور بهم الأيام فينكسرون ويهزمون أمام أعدائهم؟ أو حين يرون أعداءهم أقوي بكثير منهم وأنهم لا قبل لهم بهم ولا طاقة لهم بحربهم؟ هنالك لا مفر من الاعتراف بالواقع فالمكابرة لا تغير الحقائق ولا تجعل الضعيف قويا والقوي ضعيفا. فإذا رأت قيادة المسلمين - بعد التشاور في الأمر كما هو واجب - أن هناك خطراً عليهم من استمرار القتال وجب وقف القتال سواء طلب العدو إيقافه أم لم يطلبه. وفي ص 821: أما إذا كان الجهاد جهاد دفع أي جهاد مقاومة للعدو الغازي فهذا جهاد اضطرار لا جهاد اختيار هو جهاد مقاومة للوقوف في وجه العدو حتي لا يدخل أرض الإسلام أو لطرده منها إذا دخل وفي هذا الجهاد تبذل المهج والأرواج حفاظا علي الأرض والعرض ودفاعاً عن الحرمات والمقدسات ولكن ليس إلي حد تعريض الجماعة كلها للهلاك. فليس من الحكمة ولا الصواب أن ندخل مع العدو معركة فناء وإبادة كانت القوي غير متكافئة ولا متقاربة وهذا من واقعية هذه الشريعة التي تتعامل مع الحقائق علي الأرض ولا تحلق في مثاليات ليس تحتها طائل، إنها تعمل أبداً علي جلب المصلحة وتوقي المفسدة ولها في ذلك فقه رحب عميق سميناه فقه الموازنات أ.ه. ثم يستمر القرضاوي في صحوته الفقهية المتأخرة بعيداً عن المؤثرات الحزبية فيقرر ما قرره ابن القيم من جواز دفع مال من المسلمين لعدوهم لوقف الحرب فيقول في ص 822: وقال الإمام ابن القيم في فقه غزوة الحديبية من الهدي النبوي حيث ذكر: جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأي مصلحة المسلمين فيه ولا يتوقف ذلك علي أن يكون ابتداء الطلب منهم. ثم يستدل بقصة غطفان في غزوة الأحزاب: وقال في بداية المجتهد: (كان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار علي شيء يدفعه المسلمون إلي الكفار إذا دعت إلي ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات) أ.ه. قلت: سبحان مغير الأحوال.. القرضاوي يكتب بيده ما سبق بيانه فيما نقلته عنه في كتابه فقه الجهاد وهنا أراني مصراً للتساؤل هل يكتب القرضاوي ما سبق عن عقيدة أم عن هوي؟ بالقطع عن عقيدة فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يصدر القرضاوي ومنظمته العالمية المسماة باتحاد علماء المسلمين العالمي قطاع خاص بياناً يشاركه فيه المسكين مهدي عاكف يصرحون فيه باعتذارهم وخطئهم في حق دينهم أولاً ثم في حق الرئيس السادات الذي كان أقرب منهم لشرع الله فيما صنعه في حربه وسلامه، إن القرضاوي بكتابه الأخير وضع نفسه في امتحان صعب أيرضي الناس بسخط الله أم يرضي الله وإن سخط عليه الأتباع؟ وللحديث بقية