بقلم: مايكل بنيون وجيمس هايدر قبل عام واحد كان هو «فرعون» مصر، الحاكم المطلق على 80 مليونًا من الأنفس. أمس نقل على سرير ذى عجلات إلى قاعة محكمة فى القاهرة فى المرحلة الأخيرة من محاكمة يناضل خلالها من أجل حياته، حياة انقلبت رأسا على عقب بفعل الربيع العربي. استنادا إلى روايات من مصادر فى صميم السلطة، تستطيع «التايمز» أن تكشف حصريا عن الساعات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع الذى استمر 30 عاما، والشهور المتوالية من الانحدار التى شهدت انكماشه فى غرفة صغيرة بأحد المستشفيات. بجانبه خلال تلك الاحداث العاصفة كانت زوجته سوزان، ابنة ممرضة من ويلز (أحد أقاليم بريطانيا) وجراح مصري، وقد أبقت مصر وبقية دول العالم فى حالة ترقب خلال اللحظة العصيبة التى استقال فيها زوجها، بينما كانت تبكى من دون سيطرة على نفسها على أرضية الفيلا الرئاسية، رافضة مغادرتها. انضمت السيدة مبارك إلى ابنيها، جمال وعلاء، فى المروحية التى نقلتهم إلى منفى داخل مصر فى شرم الشيخ فى اليوم الذى أجبر فيه زوجها على التخلى عن منصبه. ولكن ومع دوران المراوح، قفزت لتخرج وتركض عائدة إلى الفيلا. المسئولون الذين نفد صبرهم ظنوا أنها ربما نسيت مجوهراتها، أو فستانها المفضل. والحقيقة أنها عادت إلى بيتها وانهارت. والحراس الذين خالفوا البروتوكول واقتحموا الفيلا وجدوها ممددة على الأرضية يغمرها الحزن، محاطة بتذكارات وسجلات حياتها. يشرح تفاصيل الساعات الاخيرة من النظام كتاب جديد أصدره المدير السابق للتليفزيون المصرى، الذى لعب دورا مهما فى إقناع مبارك بالاستقالة وكتب خطاب الوداع. إن الحراس الذين جلبوا زوجة الرئيس حملوها فى أرجاء الفيلا بينما كانت دموعها تبلل كتفيها وهى تجمع المقتنيات القليلة التى استطاعت حملها، ولم تستطع التخلى عنها. «ظلت أثناء حزنها تردد الجملة نفسها، مرارا وتكرارا (...كان عندهم سبب...) وعندما تماسكت بعض الشيء، عادت إلى الحراس وسألتهم فى ذعر: «هل تعتقدون أنهم يستطيعون الوصول إلى هنا؟ أرجوكم لا تدعوهم يدخلون هنا.. أرجوكم، لا تدعوهم يدمرون الفيلا، أرجوكم. انظروا، تستطيعون البقاء هنا، ابقوا فى الفيلا.. أرجوكم أحرسوها». طيلة هذا الوقت كان المنياوى فى مكتبه استعدادا لبث الشريط الذى يعلن فيه الرئيس استقالته. ويقول: «رغم أن أحدا لم يعرف بذلك حينئذ، فإن البلاد كلها كانت تنتظر سوزان مبارك بينما كانت تبكى فى قصرها الخالي». ويكمل المناوى اتسمت الكلمة الاخيرة التى اذيعت بالفوضى. فقد قرر مبارك أن بيان الاستقالة القصير يجب ان يلقيه نائبه عمر سليمان، وتم الاتفاق على هذا الترتيب مع المشير طنطاوى قائد الجيش. ولم يكن هناك وقت كافٍ لنقل عمر سليمان إلى استوديوهات التليفزيون. وبدلا من ذلك وضعت آلة تصوير فى ممر خارج مكتبه لإذاعة البيان الذى استغرق بثه 37 ثانية. ويكشف المناوى غوامض الشخصية غير المعروفة التى كانت تقف بشكل غريب وراء سليمان، والتى اعتقد الكثيرون فى حينه أنه وسيط خفى لنقل السلطة او ضابط استخبارات. والحقيقة أنه كبير مساعدى سليمان الذى ظهر فى الصورة عن طريق الخطأ. ويقول المنياوي: «كان هذا الرجل تعيسا- كان فى المكان الخطأ والزمان الخطأ». ومع تعمق الأزمة على مدى 18 يوما عقب اندلاع الثورة يوم 25 يناير 2011، أصيبت بطانة مبارك بالشلل وعدم القدرة على اتخاذ قرار، وفقا للمنياوي. وباعتباره مديرا للتليفزيون الحكومي، فقد كان يتزود بأوامر متناقضة من وزير الإعلام، والسلطة العسكرية، ومساعدى مبارك- وخصوصًا ابنه الطموح جمال. كلهم أرادوا أن يبث التليفزيون بيانات لا صلة لها بواقع تداعى سلطة الحكومة، وعن الوضع فى ميدان التحرير. وأدرك المنياوى بعد أسبوعين من المظاهرات المتصاعدة أن وضع مبارك لا يمكن الدفاع عنه. ولكن لم يجرؤ أحد على إخباره. ولذلك أقنع المنياوى كبار ضباط المخابرات أن يطلبوا من أنس الفقى وزير الإعلام القوى الذى كان مبارك يعامله كابن ثالث له، أن يطلع الأسرة الحاكمة على ما كان يحدث. وتحدث ضباط المخابرات لمدة 90 دقيقة. ويتذكر المنياوى أن «واحدا منهم حاول تشجيعى وأخبرنى أن مصر ذكرت فى القرآن الكريم خمس مرات، بينما ورد ذكر مكة مرتين فقط. وقال إنه إذا كان الله قد ذكر مصر خمس مرات فى القرآن، فسيحميها. هذا الرجل الموجود فى أعلى مستويات مؤسسة الاستخبارات المصرية، كان يقول لى إنهم ينتظرون معجزة. وبالتاكيد لم يكن الوقت وقت معجزات جديدة». توجه المناوى إلى مكتب وزير الإعلام الفقي، وأخبره أن على مبارك الظهور عبر التليفزيون ذلك اليوم وبدأ فى كتابة الخطاب الذى سيلقيه الرئيس. وكتب الفقى ملاحظات ثم اتصل بجمال مبارك، وشرح له خطورة الموقف. وأصر المنياوى على ان الخطاب يجب أن يكتمل قبل الرابعة عصرا. وطلب الجيش أن يذيع التليفزيون «البيان رقم واحد»- فى إشارة واضحة إلى أنهم يضغطون على الرئيس. وكانت مصر كلها، بمن فيهم المحتجون فى ميدان التحرير، ينتظرون خطاب الاستقالة. كان هناك آلاف يحيطون بمبنى التليفزيون يهتفون ويحتجون. وهرب معظم موظفى المؤسسة. وحتى بعد الساعة العاشرة ليلا لم تكن هناك علامة على وجود مبارك فى الاستوديو بالقصر الرئاسي. ويضيف المنياوي: «وما أثار الخوف فى نفسى أن جمال بدأ يتحرك حول الكاميرا. كان أمرًا لا يصدق. لم أصدق عينى.. ثم اختفوا تماما. «ودخل مبارك أخيرا فى الصورة بعد 20 دقيقة، محاطا بولديه والناطق باسمه وأنس. بدأ فى القراءة، ووقع فى أخطاء، ثم توقف، وبدأ من جديد. طلبوا منه التوقف لتعديل ربطة عنقه ثم قرأ بقية الخطاب. وصافح من حوله ثم انصرف. «وعندما أنهى الخطاب، شعرت بإحساس كئيب فى أعلى معدتي. كانت هذه هى النهاية. الخطاب كان مخيفا تماما- أسوأ خطاب ألقاه فى حياته. كان متصلبا. بل كان كارثة». يضيف المنياوي: «فورا بعد الخطاب، بدأ المحتجون فى أنحاء البلاد ينفثون غضبهم، ويصرخون فى الليل حتى السماء». يبدو أن جمال أعاد كتابة الخطاب الذى كان على والده أن يقرأه، وحذف كل كلام عن الاستقالة. كانت آخر مقامرة فى «مشروع التوريث» الذى تبناه جمال وأمه من أجل أن يتولى الرئاسة بعد والده. فى اليوم التالى تزايد حجم الاحتجاجات. وكانت الجماهير تحاول اقتحام مبنى التليفزيون. وترددت شائعا بأن مبارك ليس موجودا فى القاهرة ولكن فى شرم الشيخ او فى السعودية. وقبل منتصف النهار تماما اتصل ناطق عسكرى بالمنياوى ليقول إن على التليفزيون أن يعمم على الناس ان مبارك سيغادر. وبعد ذلك مباشرة استقل مبارك مروحية إلى شرم الشيخ. وقبل أن يغادر سأل سليمان الرئيس، وفقا للمنياوي، ما إذا كان يرغب فى الذهاب إلى جهة ما فى الخارج، فأجاب مبارك: «لا». وأضاف: «لم أرتكب أى ذنب وأريد أن أعيش فى هذا البلد وسأعيش فيه ما تبقى من حياتى». وصل إلى شرم الشيخ واتصل بالمشير طنطاوى، وطلب منه أن يتولى المسئولية. لكن أى كلمة حول ذلك لم تسمع. ووصل الناطق باسم الجيش فعلا إلى استوديو مع شريط من إعلان الاستقالة الرسمي- ولم يتم بث أى كلمة من الشريط إلى أن غادرت سوزان مبارك وابناها القاهرة. وهكذا انتهى عهد مبارك. نقلاً عن جريدة التايمز ترجمة - داليا طه